مقالات مجد الوطن

الحصانة الفكرية في ضوء السنة النبوية

 

✍🏻 / أمل محمد قاسم الشماخي
باحثة دكتوراه جامعة الملك خالد

وسائل الحصانة الفكرية تلعب دوراً حاسماً في حماية الأفراد والمجتمعات من التأثيرات السلبية للأفكار المتطرفة والمعلومات المضللة. وتزداد الحاجة إلى تعزيز هذه الوسائل لمواجهة التحديات الفكرية الثقافية مع التطورات التكنولوجية وانتشار وسائل الإعلام الرقمية.
تتصدر أهم هذه الوسائل السنة النبوية التي يتحقق فيها تحصين العقلية المسلمة وطرق تفكيرها السليمة وحمايتها مع إدراكها وقدرتها على التمييز بين الحسن والقبيح والخير والشر والحق والباطل، فالدعوة المحمدية شاملة متكاملة، ظهرت فيها معالم بناء التَّحصين الفكري للفرد المسلم من خلال الأثر الواضح الذي تركته السُّنة النبوية في الأمة من خلال:
القدوة الحسنة:
تكمن آثار الحصانة النَّبوية الفكرية للمسلمين بتأثرها بصاحب السُّنة النَّبوية، وتميزه بالكمال، وقد امتدح الله تعالى خُلُقه فقال في محكم كتابه: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، وظهر ذلك جلياً في كلام البشر شاهدين له بكمال خُلُقِه، كما ورد في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ t ما قاله الكفار عن رسول الله ﷺ: “مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا”، لذا نجد أن تأثيره عظيمٌ على كل الكون بعظم إخلاصه، وسلامه تفكيره، لذا استحق من الله U أن يمكّنه القدوة الأولى لهذه الأمة في كتابه الكريم فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21]. وقد ظهر تأثير القدوة جلياً في حادثة النحر والحلق للتحلل من عمرة الحديبية إذ أشارت أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله r أن يقوم هو أولاً فينحر هديه ويحلق شعره لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا ما حالة. ومن هذا المنطلق لم يكن مستغربًا إطلاق الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة مبادرة “كيف نكون قدوة”، في إطار إستراتيجية المنطقة “بناء الإنسان وتنمية المكان” ليتحقق الهدف الثاني من أهداف الرؤية التنموية للمنطقة وهو الارتقاء بتنمية إنسان المنطقة ليبلغ وصف القوي الأمين.
المنطقية والوضوح:
المنطقية سمة نبوية عالية المستوى، فكان رسول الله r يخاطب الغير حسب منطقهم ببرهان عقلي، وشرعي، وبيقين وقد ظهر ذلك في حديثه r في وصف المرأة المسلمة بناقصات عقل ودين وجوابه المفصل لأصحاب العقول السليمة في ذلك، فمن حديث أبي سعيد الخدري، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرِ إِلَى المُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النَّسَاءِ، فَقَالَ: «يا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فإنِّي أُرِيتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النَّارِ فَقُلْنَ: وبِمَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، ما رَأَيْتُ مِن نَاقِصَاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الحَازِمِ مِن إحْدَاكُنَّ، قُلْنَ: وما نُقْصَانُ دِينِنَا وعَقْلِنَا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: أليسَ شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ قُلْنَ: بَلَى، قالَ: فَذَلِكِ مِن نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أليسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ ولَمْ تَصُمْ قُلْنَ: بَلَى، قالَ: فَذَلِكِ مِن نُقْصَانِ دِينِهَا».
والسُّنة النَّبوية ما كانت تتكلم بالمنطقية إلا بوضوح تام ولا يمكن أن تقتصر على الأدلة دونها، فلا تعتمد فيها على العاطفة فقط؛ لأنه مهما كان الأمر منطقياً سليماً فلا داعي أن يكون بغير الوضوح، وإلا كان خديعة نهت عنها الدعوة المحمدية، حيث قَالَ رسول الله ﷺ قال: “الخَدِيعَةُ فِي النَّارِ”
وقد ظهرت المنطقية النَّبوية والوضوح النَّبوي في دعوته لملك الفرس، كما ورد من حديث أبي سفيان: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمٍ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ” بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمٍ الرُّومِ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْن، فالشَّاهد من المنطقية فقد ظهرت في دعوته لدين الإسلام، أما وضوح رسول الله ظهرت في قوله: “أَسْلِمْ تَسْلَمْ”، فإنَّ أي فكر دِرعُه الوضوح والخطاب المنطقي فلابد له أن يصل إلى التغيير الكبير في التفكير والإيمان.
مراعاة الفروق العقلية الفردية:
ما يميز الهدي النَّبوي إبداعه في مخاطبة الفكر، وتحصينه، جذب العقول بمختلف مستوياتها، والحديث إليها حسب كل عقلية وصفتها، أكانت تتأثر بالطَّرح العقلي أم بالعاطفة، أم بالتَّرغيب أو التَّرهيب، وسنجد أنّ رسول الله ﷺ دعا من سمعه بإبلاغ من لم يسمعه، وجعل الوعي عاملاً ناتجاً إما بالزيادة أو النقصان بينهم، فمن حديث أبي بَكْرَة: قال النبي ﷺ: “أَلَا لِيُبَلِّعْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ”
والله تعالى قال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب﴾ [البقرة: 269]، فبهذه الوسيلة ستبلغ الحصانة الفكرية أعلى درجاتها في العقلية المسلمة؛ لأنَّ تفكيرها أينما اتجه سيجد الحلول النَّبوية في كل شأن في أمور الدُّنيا والآخرة صغير كان أو كبير، فالسُّنة موصوف بالتنزه والعصمة، وبذلك تكون الشَّخصية المسلمة حصينة فكرياً، والطَّريقة النبوية حجة لأولي الألباب، خصوصاً حينما وضع الحدود الكافية لمنع الاختلاف بين المسلمين والذي يمكن أن يكون سبباً في التَّدافع والفُرقة وإضعاف الأمة، فقد قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود t: «ما أنت بمحَدِّثٍ قَومًا حديثًا لا تبلُغُه عُقولُهم إلَّا كان لبَعضِهم فِتنةً».
وقال الشاطبي: ” ومن ذلك التَّحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها وهو الغالب، وهو فتنة تؤدي إلى تكذيب الحق، والعمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم، لكن المحدث لم يُعْطِ الحكمة حقها من الصون، بل صار التَّحدث بها كالعابث بنعمة الله”
ومن الصور النَّبوية في مراعاة الفروق الفردية الراقية في تحصين فكر المسلم:
أ- كان يصدر عن النَّبي r التكرار في القول والعمل، كما جاء في حديث أبي هريرة t عَنِ النَّبي ﷺ قَالَ: “احتجَّ آدمُ وموسَى عليهما السَّلامُ فقالَ لَه موسَى يا آدمُ أنتَ أبونا خيَّبتَنا وأخرجتَنا منَ الجنَّةِ بذنبِك فقالَ لَه آدمُ يا موسَى اصطفاكَ اللَّهُ بِكلامِه وخطَّ لَك التَّوراةَ بيدِه أتلومني علَى أمرٍ قدَّرَه اللَّهُ عليَّ قبلَ أن يخلقني بأربعينَ سنةً فحجَّ آدمُ موسَى فحجَّ آدمُ موسَى فحجَّ آدمُ موسَى ثلاثًا”.
قال العيني قَالَ الْخطَابِيّ: إِعَادَة الْكَلَام ثَلَاثًا إِمَّا لِأن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه عَن وعيه فيكرره ليفهم، وَإِمَّا أَن يكون القَوْل فِيهِ بعض الإشكال فيتظاهر بِالْبَيَانِ؛ لِأَن إِعَادَةِ النَّبِي ثَلَاثِ مَرَّات إِنَّمَا كَانَت لأجل المتعلمين والسائلين ليفهموا كَلَامه حق الْفَهِم، وَلَا يفوت عَنْهُم شَيْءٍ من كَلَامه الْكَرِيمِ”.
ب – كما أنَّ رسول الله r استخدم لغة الجسد ما بين الحركات والإشارات، ولقد ورد من حديث عبدالله بن مسعود t قَالَ: خطَّ لَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطًّا مربَّعًا وخَطَّ في وسطِ الخطِّ خطًّا وخَطَّ خارجًا منَ الخطِّ خطًّا وحولَ الَّذي في الوسطِ خطوطًا فقالَ: هذا ابنُ آدمَ وَهَذا أجلُهُ مُحيطٌ بِهِ، وَهَذا الَّذي في الوسطِ الإنسانُ، وَهَذِهِ الخطوطُ عروضُهُ إن نَجا من هذا ينهشُهُ هذا، والخطُّ الخارجُ الأمَلُ”.
كما أمر النَّبي r بالكتابة، فمن حديث أبي هريرة t أنّه “.. جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «اكْتُبُوا لِأَبِي فُلان»، وهذا الأسلوب النَّبوي لمن لا يستطيع الحفظ.
ت- ومن مراعاته للفروق الفردية ورد عنه أنّه ميّز بين أهل العلم وغيرهم، كحديث أبي مسعود t قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا ولا تَختَلِفُوا؛ فتَختلِفَ قلوبُكمْ، ولِيلِيَنِي مِنكمْ أُولُو الأحلامِ والنُّهَى، ثمَّ الذين يَلونَهمْ، ثمَّ الذين يَلونَهُمْ»
ث – اهتم رسول الله ﷺ بمن في عقله ضعف وسذج، حينما أورد ابن عمر t في حديثه، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي البَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبي: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ».
التَّخطيط المُحْكَم:
استراتيجية تمكين المسلم من تحصين عقله فكرياً، من خلال وسيلة التخطيط المحكم، لهو هدي نبوي، وهذه ميزة سادت الإسلام قروناً، وقد تميزت وسيلة التَّخطيط النَّبوي على غيرها عبر التاريخ بمميزات كثيرة في التحصين الفكري أهمها:
أ – ترسيخ مبدأ التَّوكَّل والاعتماد على الله تعالى، من خلال ما ورد من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ t قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: «اعْقِلُهَا وَتَوَكَّلْ».
ب – مبدأ الأخذ بالحذر والحيطة من تكرار الخطأ سواء على مستوى التفكير أو العمل، ومن سنته ما رودنا من حديث أبي هريرة t عَنِ النَّبي ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ» وفيه الاتِّعاظ، وأخذ العبرة من الماضي، وعدم تكرار الأخطاء، وأنْ يأخذ المسلم الحذر والحيطة في الأعمال التّي يقدم عليها.
ت – إتمام مبدأ التَّخطيط (التَّكتيكي) قصير المدي: والذي يتيح لفكر المسلم الإنجاز في معرفة الإيجابيات والسلبيات بوقت قصير وتفاديها في مرحلة التَّخطيط الاستراتيجي، كما انتهج رسول الله ﷺ اجراءاته التكتيكية التي اتخذها r في خطة الهجرة وأهم هذه الخطوات التكتيكية:
الخطوة الأولى: تأمين وسيلة النقل إلى المدينة فقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها “… فَحَبَسَ أبو بَكْرٍ نَفْسَهُ علَى رَسولِ اللَّهِ r لِيَصْحَبَهُ، وعَلَفَ راحِلَتَيْنِ كانَتا عِنْدَهُ ورَقَ السَّمُرِ وهو الخَبَطُ، أرْبَعَةَ أشْهُرٍ”.
الخطوة الثانية: مبيت علي t في فراشه من حديث ابن عباس t ” وشَرَى علِيٌّ نفسَه لبِسَ ثوبَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثم نامَ مكانَهُ “.
الخطوة الثالثة: الانتقال سراً إلى دار أبي بكر t مع الحذر من الرَّصد، في وقت الظهيرة متقنعاً كما ورد من حديث عائشة رضي الله عنها”.. قَالتَّ فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُتَقَنعًا.
الخطوة الرابعة: تجهيز الزاد في دار أبي بكر الصديق t وفي الحديث: “فَجَهَّزْنَاهُما أحَثَّ الجِهَازِ؛ وضَعْنَا لهما سُفْرَةً في جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أسْمَاءُ بنْتُ أبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِن نِطَاقِهَا، فأوْكَأَتْ به الجِرَابَ”
الخطوة الخامسة: الخروج من دار أبي بكر t سرًا عبر طريق ساحلي وهذا ما حدّث أبو بكر الصديق t قال: “فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة”

المرجع:
خليل، إسراء عطا. (2015). الْحَصَانَةُ الفِكْريَّة فِي ضَوْءِ السُّنة النَّبوية “دِرَاسَةٌ مَوضُوعِيَّة”]رسالة ماجستير غير منشورة[. الجامعة الإسلامية-غزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى