مقالات مجد الوطن

قراءة أولية في قصة “الرجل القبرصي” للطيب صالح

 

لو سألت معظم قراء الطيب صالح ومعجبيه عن أعماله القصصية لتجاوز أكثرهم قصة ” الرجل القبرصي” ، وما عدّوها ؛ جهلا بها ؛ وذلك لعدم بروزها مثل رصيفاتها.

 

هي قصة عظيمة ، تمتلك من أدوات القصة القصيرة ما يؤهلها لتصدر قصص الطيب صالح ، لكنها لم تحظ بالانتشار الكافي.

 

تتعدد نواحي تميز هذه القصة ، وتتنوع جوانب تفردها ، ومن ذلك السرد الفلسفي العميق الذي يبدو ظاهرا في هذه القصة ، وكذلك الانتقال السلس حينا والمفاجئ أحيانا بين السرد والحوار، وبين الأمكنة والأزمنة . ومن ذلك وضوح ثقافة الطيب صالح وهو جانب يبدو جليا في هذه القصة كما في غيرها من أعماله.

 

لكن أبرز ما يميز هذه القصة أنها جاءت مثل الشعر في رقة لغتها ، والأهم من ذلك في غرضها ، نعم في غرضها ، فالقصة وردت في غرض الرثاء ، وهذا أمر مستغرب ، فالطيب صالح رثى أباه بهذه القصة ، شأنه شأن الشعراء ، وربما تكون للمرة الأولى أن يأتي الرثاء في قصة، وليس في قصيدة ؛ مما يدعم القول بأن هذه القصة في وفاة أبيه السياق الزمني الذي كُتبت فيه القصة ، وهو بعد تاريخ وفاة أبيه الذي أهداه كتابه “مريود” حين كتب :

*إلى روح أبي محمد صالح أحمد*

*كان في فقره غنى ، وفي ضعفه قوة ،عاش محبا محبوبا ومات راضيا مرضيا*.

 

ومما يؤكد كون القصة في رثاء أبيه بعض العبارات الواردة فيها ، مثل :

“ولما تيقنت أنه كان ذلك اليوم في نيقوسيا ، يفاضل بيني وبين أبي، وأنه اختار أفضلَنا”

كذلك قوله “وقفت على قبره وقت الضحى” وكذلك :” لن يكون أبوك موجودا في المرة القادمة” وغيرها كثير.

 

 

 

الطيب صالح نعى نفسه ، وذكر دنو أجله في هذه القصة بعد رثاء أبيه ، حين أورد قول الرجل القبرصي :” لن تراني على هذه الهيئة مرة أخرى ، حين أفتح لك الباب وأنحني بأدب وأقول لك : تفضل يا صاحب السعادة” ثم ” فإنك الآن تصعد نحو قمة الجبل”.

 

 

 

تبدو فانتازيا التناول رغم واقعية الحدث حينما جعل الرجل القبرصي كأنه ملك الموت الذي يقبض الأرواح ، والدلائل على ذلك في القصة كثيرة ، منها إشارات الرجل القبرصي الغامضة وتلويحه بيده وما يعقبه من إصابة أو سقوط إحدى الشخصيات:” أشار الرجل القبرصي بيده إشارة بشعة ، في تلك اللحظة انكبت البنت على وجهها ، سقطت على الحجر وسال الدم من جبهتها”

 

 

 

ومنها أن الرجل القبرصي يتحدث جميع اللغات ؛ لأن ملك الموت يقبض جميع الجنسيات :”صوته إنجليزي أحيانا ، وتشوبه لكنة ألمانية أحيانا ، ويبدو لي فرنسيا أحيانا ، ويستعمل كلمات أمريكية ” ثم ” بعض الناس يحسبونني إيطاليا وبعضهم يحسبونني روسيا وبعضهم ألمانيًّا ..إسبانيًّا ، ومرة سألني سائح أمريكي : هل أنا من بسوتولاند … تصور ، ماذا يهم من أين أنا ؟”

 

 

يبدع الطيب صالح- كعادته- حينما يجعل أعماله القصصية تتداخل ، وتتشابك شخصياتها وأحداثها في قصة الرجل القبرصي ، فقد أورد في قصته هذه شخصية الطاهر ود الرواس ،و أدار معه حوارا طويلا ، ثم فاطمة بت جبر الدار وعبدالحفيظ ، وعبارة وردت في ضو البيت أوردها هنا ” الرجل الكان هنا راح وين”

 

 

يعرّف لنا الطيب صالح الموت في تعريف فلسفي عميق ، حينما يورد على لسان الرجل القبرصي : “ما هو الموت ؟ شخص يلقاك صدفة ، يجلس معك، كما نجلس الآن ، ويتبسط معك في الحديث ، ربما عن الطقس ، أو النساء أو أسعار الأسهم في سوق المال ثم يوصلك بأدب إلى الباب ، يفتح لك الباب ويشير لك أن تخرج ، بعد ذلك لا تعلم”

 

 

يذكر الكاتب الأمريكي آرنست همنجواي أنه كان يهتم كثيرا بنهايات قصصه ؛ لأنها آخر عهده بالقارئ وحتى يجعل القارئ يبحث له عن قصة أخرى ليقرأها ، أما الطيب صالح فكما أجاد في النهايات فقد أحسن في البدايات .

 

 

أما بداية هذه القصة فكانت عجيبة ومدهشة تبعث على التشويق وأنها تنبئ أن وراءها ما وراءها فيتلهف القارئ للّهث وراء الأحداث ” نيقوسيا في شهر يوليو كما لو أن الخرطوم قامت مقام دمشق ، الشوارع كما خططها الإنجليز والصحراء صحراء الخرطوم”

 

 

 

يُبرِز الطيب صالح قضية العرب المركزية “قضية فلسطين ” حين جاءته –في الفندق- امرأة فلسطينية تحكي مأساتها ، في هذه الأثناء دق جرس الباب ، وجاءته برقية فيها خبر الوفاة ، فانشغل عنها ، هنا إشارة مؤلمة حينما قال :” وكانت المرأة الفلسطينية تحكي لي أنباء الفاجعة الكبرى ، وأنا مشغول عنها بفجيعتي” وفي ذلك رمزية تجسد الواقع العربي الأليم .

 

 

من المعروف أن رواية الأحداث في الفن القصصي لها طريقتان :

طريقة ضمير المتكلم ، مثل : قلت ، حدثني …

طريقة ضمير الغائب ، مثل : قال ، وحدّث …

اختار الطيب صالح ضمير المتكلم ، وذلك الأنسب-هنا- لو اصطحبنا غرض القصة وهو رثاء أبيه، ، فكان حريّا به أن يتحدث بلسانه ،بضمير المتكلم ؛ مما جعله شخصية من شخصيات القصة .

 

 

القصة تعج بالصور الشعرية الجميلة التي ضاهت بل بزّت الصور في أجمل القصائد ، ومن ذلك قوله :اتسعت موجة الضحك ، كأنّ غيمة رمادية ظللت المكان ، “هبت العائلة مثل طيور مذعورة” ” كانت الظلمة والضوء يتصارعان حول المسبح” وغيرها كثير.

 

 

اختيرت القصة ضمن أجمل القصص العربية في كتاب للدكتور الطاهر أحمد مكي أستاذ الأدب في كلية دار العلوم-جامعة القاهرة في كتابه : القصة القصيرة دراسات ومختارات.

 

 

أرجو أن يُفتح الميدان النقدي لهذه القصة؛ ففيها من الثراء ما يجعلها مادة خصبة للدراسات النقدية والأدبية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*طارق يسن الطاهر*

من كتابي *مقالات في الأدب والحياة* الجزء الثاني من ص 18-24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى