محمد الرياني
لم يقل لها إنها ربما تكون آخر رسالة يبعثها إليها، وضعوا يديه خلف ظهره واقتادوه نحو محاكمة غريبة ، أغمضوا عينيها كي لاترى الكتابة، ساقوها كما بهيمة نحو زريبة منتنة لتأنف عن الوصال ، نادوا على الشهود ليحضروا مراسم إزهاق قلبين نبضا يومًا، أعلنوا الجريمة النكراء التي حلت في المكان الذي تقذف فيه الورود بالحمم السوداء، بقي مربوط الكفين لايكتب عن مصيره أو يحرك أصابعه ليعرف أين يقبع القلب الآخر، قاموا برمي رسالته لتأكلها الخراف الجائعة ، جاء يوم جديد لم تعهده الديار، فصلُ ربيعٍ مختلف اخضرت فيه الأشواك التي يحمون بها أنفسهم من الكلاب المسعورة، نبت في الأزقة زهور لم يروا مثلها من قبل، تألقت المساحات حولهم، غابت الجوارح التي كانت تطوف فوقهم لتأكل الجيف وأشلاء الحيوانات النافقة، أحاط بهم نهرٌ جديد من الماء العذب وهم الذين يغتسلون بالماء الحار منتصف النهار، وُلد حبيبان من جديد، أمٌّ ترضع وليدها حدّ الشبع وهو يضحك في وجهها، أخوان يتسابقان نحو اللهو البريء على العشب، تذكروا أن في المنفى قلبًا ينبض بالمشاعر، وأن في العزل آخر كتب نبضه في رسالة لم تنفتح بعد، عادوا إلى الصواب، هبّت نسائم الربيع فزالت بقايا الدواب، نبت فيها ورد وزهر لتتسلق أغصانها على العيدان اليابسة، غدت حديقة من زهور وورود، جاءوا إليها ليفرجوا عنها فوجدوا أن الدواب لم تأكل مكتوب الغرام، أطلقوا سراحها وسلموها الرسالة ، ذهبت إليه لتحرره من اغلاله ، وجدته يكتب لها أخرى بلا قيود ، ناولته الرسالة القديمة ليقرأها عليها من جديد.