محمد الرياني
حملَ حقيبته الصغيرة خلف ظهره وقد ارتدى جزمته البيضاء الأنيقة، رشَّ على جانبي ثوبه العطر كما كان يفعل، وصل باب المدرسة وأشار إلى الحارس بيده للدخول فاكتفى بمراقبته وهو يتعجب من هذا الزائر الصغير ، تسلل نحو الجدران ولم يأبه بنظرات الحارس الغريبة ، وقف في الفناء الواسع الذي بدا كئيبًا حزينًا، تساقطت بعض اللوحات على الأرض ومعها ذرفت عيناه من الحزن كمن فقد عزيزًا عليه، اتجه نحو العلَم وهو يحييه بصوتٍ تردَّد في الطابقين، صعد الدرجَ نحو الطابق العلوي وهو يتوقف عند كل درجة من درجاته ليقرأها على جانبيه، تأوه عندما رأى تلك العبارات التي افتقدها، أخذ يستروح رائحة التراب الذي سكن الأماكن وقت العزلة، جلس وكتب على ذرات الغبار : اشتقتُ إليك يا…. لم يكمل من الدموع التي انهمرت من عينيه، اتَّجهَ نحو فصله القريب، وقف عند الباب فاصطدمَ بطاولة أحد الطلاب الواقعة في أول الصف، تذكّرَ زميله ولحظات المزاح وأوقات الجد، خطَّ على غبار الطاولة : أين أنت ياصديقي الآن؟ وقف مكان المعلم ونظر إلى إلى الخلف للتاريخ الذي لم يُمح من يمين السبورة وقرأ البسملة المكتوبة أعلاها، حلّق ببصره في أرجاء الفصل وجال به بين المقاعد والطاولات، صاح كما يفعل المعلم : اسكت يا…، وأنت يا… لمَ تأخرت اليوم؟ أشار إلى آخر: غدًا تأتي بالواجب المتأخر عليك ، استراح على مقعد في مقدمة الفصل وحقيبته لاتزال على ظهره، سرعان مافتحها وأخرج منها كتابًا، قرأ قطعةَ النصوص التي في مقدمة المقرر، لم يتمالك نفسه من الحنين والاشتياق ، تخلص من ثقل الحقيبة وذهب إلى الجدران يتلمسها ويشمها، جعل يربت عليها كما تتحسس أمٌّ وليدها، غادر الفصل وهو يتوجس من الحارس الذي ينتظره بالأسفل، نزلَ بهدوء ثم قرع بيده جرس المدرسة المثبت عند مكتب القائد، فرح وكأنه يغادر بعد نهاية الحصة، رأى سجاد الصلاة، تذكَّر الطلاب الذين يفرشونه وقت الظهيرة ثم يجمعونه بعد الفريضة، وصل الباب الخارجي وعينه على غرفة الحارس، فتحَ الباب دون أن يُحدِث صوتًا ، لمح الحارسُ الحقيبة على ظهر الطالب فأمسك به وسأله عن اسمه، بكى من الحرقة على فقد المدرسة ، تعاطف معه وأخذ ينشج، وقفا سويًّا ورفعا يديهما نحو السماء بالدعاء أن يزول فايروس (كورونا) كي يرجع مع زملائه إلى حجرات الدرس ، مسح الحارس بعض الغبار من مؤخرة الحقيبة، ابتسم الصغير على الغبار الذي علق بإصبعه ، طلب من الحارس أن يكتم سرَّ الحنين.