مقالات مجد الوطن

سهرة

 

محمد الرياني

سيِّدةُ الأعمالِ التي دعته للعشاء في عيدِ ميلادِها الخمسين كانت في غايةِ الأناقةِ عندما التقته مصادفةً عند البائعِ في السوقِ المغلقِ المتنوع ، سائقُها الخاص يدفعُ عربةً محملةً ببعضِ لوازمِ الاحتفال ، لم يكن يعرفُ هذه السيدة ولكنَّ باقةَ وردٍ بثلاثةِ ألوانٍ منها الجوريُّ الأبيضُ لفتتْ أنظارَ السيدةِ عندما سمحَ لها بأن تتجاوزَه للدفع لِمَا رأى من سيماها ، شكرتْه وهي تدققُ النظرَ في ملامحه الربيعية ، بشرته القمحيُّةُ الصافيةُ وقامته المتناسقة مع وزنه ، حرَّكَ رأسه بالموافقةِ وهو يستغربُ هذه الدعوةَ من سيدةٍ غريبة ، ناولتْه بطاقةَ الدعوةِ وبها عنوانُ الفندق ، صورةُ الفندقِ وسُمعتُه العالميةُ جعلتُه يتحمَّسُ للذهاب على الأقلِّ من بابِ حُبِّ الفضولِ ليرى مَن على شاكلتِها وهم يحتفلون معها ، الموعدُ في العاشرة مساءً ولايزال هناك متسعٌ من الوقتِ ليغتسلَ ويرتدي أحسنَ ماعنده ويتطيبَ بأحسن الطيب ، ذقنُه ووجهه حديثا عهدٍ بالحلاقةِ فلاداعيَ لحلاقتِها حتى لا يتأخر ، منابتُ الشعرِ لاتبدو واضحةً لمن حوله في صَخَبِ السهرة ، نظرَ في المرآةِ وهو يمدحُ نفسه واستدارةَ وجهه بعينيه السوداوين ، المسافةُ مع الزحامِ تتطلبُ نصفَ ساعةٍ حتى يصِلَ ، بالنسبة له لا يحبُّ السرعةَ ويحرصُ على سلامةِ نفسه وسيارته غاليةِ الثمنِ من النوعِ الرياضي الفاخر ، حضرَ في الموعدِ وحولَ البوَّابةِ التي يدخلُ منها الضيوفُ اصطفت سياراتٌ أغلى ثمنًا وأرقى ، وكلما اقتربَ من البوَّابةِ تحوَّلُ المكان إلى تجمُّعٍ لرائحة العطورِ الراقية ، اهتمامُها به جعلَها تنتظرُه في المدخل دون غيره ، نظراتُ الضيوفِ لها وله أشعرتْه بالإحراجِ والافتخارِ في آنٍ معا ، سارت بجانبه حتى أوصلته مقدمةَ الاحتفالِ ثم أجلستْه جوارَ رجلٍ في الستين على مايبدو ، التزمَ الصمتَ ولمْ تقم بالتعريفِ به ومن عادته أنه يكتفي بالصمتِ في أيِّ مكانٍ لايعرفُ فيه أحدًا ، بسرعةٍ امتلأتِ القاعةُ وتحولتِ الأماكنُ إلى طاولاتٍ توزعتْ بينَ الحضورِ وعلى كلِّ طاولةٍ يتناوبُ عمَّالُ المطعمِ على توزيعِ العشاءِ؛ تارةً المقبلات والسلطات ثم العشاء والعصير ، ويتفننون في تقديمِ قطعِ الكعك والحلويات ، كان يتعشى وهو يتأملُ الخمسين شمعةً كبيرةً ترتفعُ لتصلَ إلى قمَّةِ المسرحِ مصفوفةً بألوانَ زاهية ، جاءت إليه تطلبُ منه كلمةً في عيدِ ميلادِها الخمسين ، نسيَ اسمَها المكتوب في بطاقةِ الدعوة في غمرة المفاجأة ، شكرَها على الدعوةٍِ لحضورِ الحفلِ وروعةِ المكان ، وعلى تمتعُها بروحِ الشبابِ والجَمالِ في هذا العمر ، تأخرَ الحفلُ ولم يعتد على السهر لأنه يلتزمُ بالمواعيدِ حتى مع النوم ، انفضَّ الحضورُ وبقيَ مع قلِّةٍ معها وبعض النادلين في الفندقِ لايزالون في بعض الأعمال ، همستْ في أذنه : هل أنتَ متزوج؟ كأنَّ عفريتًا داسَ على قدميه ، قامَ مذعورًا من سؤالها ليجيبها : نعم ..نعم سيدتي ، قالت له : كأنك لم تسمع صوتَ الضجيجِ في الخلف ، لقد جاءت تسألُ عنك فاعترضَها حَرسُ الفندق ، لاعليك ستكونُ الأمورُ على مايرام عندما تعود إليها ، نظرَ في ساعته عند وصوله وهو يغلقُ بابَ السيارةِ فإذا الوقتُ بعد منتصفِ الليلِ بساعةٍ أو تزيد ، سمعتِ الصوتَ فخرجت تنتظرُه عندَ الباب ، بادرتْه برفعِ بطاقةِ الدعوةِ في وجهه ، أدخلَ يديه في جيبيه مستغربًا كيف وَصَلَتْها الدعوة ، قالت له: هذه دليلُ ذهابِك ، يبدو أنَّ الحَفلةَ مهمةٌ لدرجة أنها أَنستْكَ البِطاقةَ عند المرآة ، أغمضَ عينيه بشدةٍ وهو يفكرُ في الخلاص من هذا الموقف ، عندما فتحهما ليعتذرَ وَجدَها تغطُّ في سباتٍ عميقٍ بجواره ، تثاءبَ وعادَ للنوم يبحثُ عن صاحبةِ الدعوة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى