محمد الرياني
لأولِ مَرةٍ يذهبُ إلى صَالةِ المغادرةِ مُتأخرًا ، اعتادَ أن يَكونَ أوَّلَ الواصلين استعدادًا للسفر ، يعجبُه رؤيةُ حَركةِ المسافرين بكاملِ تفاصيلها ، فهذه امرأةٌ تطاردُ طفلَها وهو يتعثرُ بينَ أقدامِ المسافرين ، وتجذبُه رائحةُ القهوةِ على الرغمِ من أنه ليس صاحبَ مزاجِ مثلَ غيره على احتساءِ القَهوةِ في الصالةِ مع قطعِ الكعك وأخذِ بقاياها معه على سلَّم الطائرة أو في أيِّ مكانٍ آخر، في ذلكَ اليومِ تأخَّرَ كثيرًا ، كان في مهمةٍ ضَروريةٍ للسفر ، أناقتُه ورائحةُ العطرِ الرسميِّ الفخمِ جعلت الموظفينَ ينتهبون له ، انطلقَ إليه موظفٌ حسن المظهرِ والشكلِ وأخذه نحوَ الساحةِ التي تهبطُ وتصعدُ بالقرب منها الطائراتُ وقد وَقَّع له على كارتِ الصعود ، حمِدَ الله على يومٍ بدَتْ فيه روعةُ السماءِ بهتَّانِها الذي سبقه إلى أجنحةِ الطائرةِ وجسدِها ، لم يكترثْ بما سيصيبُ ملابسَه من الغرق ، لأنَّ فرحةَ السفرِ كانت عنده تعني له الكثير ، هتفتْ له المضيفةُ بسرعةٍ ولسانُ حالها يعاتبُه على تأخيرِه لهم في إغلاقِ بابِ الطائرة ، اعتذرَ لهم وشيءٌ من قطراتِ المطرِ تدخلُ من بين شفتيه اللاهثتين ، أَجلسُوه جوارَ سيدةٍ أو آنسةٍ لا يعرفُ حقيقتَها كانت تجلسُ جوارَ الشباكِ الزجاجيِّ للطائرة ، بالنسبةُ له يختارُ دائمًا الجلوسَ جوارَ الشُّباكِ ليرى أغلبَ مكوناتِ الكرةِ الأرضيةِ التي حَوله ، ويستمتعَ بالأنوارِ في الليلِ وتشكيلاتِ المدنِ مثلَ عقودِ الذهب ، بدا أنَّ السيدةَ غيرُ مهتمةٍ بهذا الراكبِ الذي يجلسُ بجانبها ، بل بكلِّ مايجري حولها وربما لو اهتزَّتِ الطائرةُ من المطباتِ الهوائيةِ لما حرَّكت في مشاعرِها شيئا ، غايةُ اهتمامِها كان في إزالةِ طلاءِ أظافرِها البرونزي ، ظلَّت طوالَ الرحلةِ تحاولُ إزالةَ الطلاءِ بقطعةِ قماشٍ صغيرةٍ في يدها ، رُبَّما كان هذا تصوري ، فأنا لا أَفهمُ في خصوصياتِ النِّساءِ كثيرًا لا سِيَّما أدوات التجميل والمكياج ، صمتٌ رهيبٌ لفَّ المقاعدَ الثلاثةَ المتجاورةَ لدرجةِ أنَّ المضيفَ الذي يُوزِّعُ الوَجباتِ مرَّ بجوارِ المقاعدِ ولم يعطها شيئًا بسببِ عدمِ رفعِ رأسها عند عرضه خيارات الوجبة واتجه نحو الصفوف الأخرى ، بينما الراكب اكتفى بنظراتِ الخجل وركَّزَ على شاشةِ العَرضِ في الطائرةِ وهو يتفكرُ في قطعةِ الحديدِ المجوفةِ التي تحملهم بكلِ مشاعرِهم ومعهم هذه السيدةُ التي تحاولُ إزالةَ الطلاء ، بعدَ ساعةٍ أعلنَ كابتنُ الطائرةِ عن موعدِ هبوطِ الطائرة ، أرادَ أن يستمتعَ بوقتِ الشروقِ على مقربةٍ أكثرَ من الشمسِ خلافَ التي اعتادَ عليها عندما يكون على سريره في الطابقِ الأرضي بغرفته الخاصة ، مرَّرَ يديه من خلفها ليزيحَ ستارَ النافذةِ فانتبهتْ وقالت بتأفُّفِ لم أفلح في إزالة الطلاء ، تذكرَّ أنَّ طبيبَ العيونِ الذي أجرى له عمليةً لتقويةٍ الإبصارِ قال له ذاتَ يومٍ وهو ينصحه عند استعمالِ النظارةِ الطبيةِ بأن يشتري زجاجةَ بها معقِّمٌ يشبه زجاجاتِ العطر ، بحثَ كثيرًا فلم يجد من يدلُّه عليه أو يعرف الاسمَ المكتوبَ في وصفةِ العلاج ، وقفَ وهو يمدُّ يدَه ليتناولَ حقيبته ، قال لها لا إراديًّا بلغتِه الانجليزيةِ البسيطةِ ( نيل بوليش) أي مزيل طلاءِ أظافر ، نهضت واقفةً وهي تتأملُ أظافرها ، عاتبته : لِمَ لمْ تسعفني بالإجابة ونحن في الجَوِّ ؟ أغمضَ عينيه من القهرِ وتركها ، شاهدَها تكتبُ شيئًا على ورقةِ صغيرة ، اتجهت صوبَ محلٍّ للتجميل في المطارِ والورقةُ في يدِها ؛ بينما عيناها تتأملان أظافرها النحاسيَّة .