محمد الرياني
بينما هي تضعُ كفَّها على خدِّها مُطرقةً إليَّ وجزءٌ من الظلِّ يُغطِّي بعضَ وجهِها، كنتُ أقولُ لها : ما أروعَ قهوتك! هل تُصدقين؟ دائمًا ما أربطُ الصباحَ بقهوتِك الفريدة ، أختي الكبرى التي تناولتُ بجوارِها القهوةَ تحتَ ظلِّ غرفتنا لم أجدِ المذاقَ نفسَه في مشروبِها، أسألُها ماهي الخلطةُ السريةُ التي تضعينها مع قهوتِك؟ حركتْ كفَّها عن خدِّها وهي تضحكُ قائلةً: لاشيء، ربما لأنَّ المذاقَ يسكنُ بباطنِ كفي، قربتْ يدَها اليمنى من وجهي لأشمَّها ، قلتُ لها: كأنك صادقة، النكهةُ في باطنِ كفِّكِ بالفعل ، ما رأيُكِ أن تصبِّي لي فنجانًا آخر؟ قالت أنتَ بلا عملٍ وتريدُ أن تتسلَّى، يكفيكَ فنجانٌ واحدٌ ، شعرتُ بالخيبةِ وانكسرتْ نفسي، أدرتُ وجهي وأنا أهمُّ بمغادرتها، قالت لي : إلى أين؟ ثم تناولتْ دلَّةَ القهوةِ وصبَّتْ لي في فنجانِ الفخارِ من جديد ، عدتُ لأسألَها عن السر ، أجابتْ وهي تحجبُ الشمسَ بكفها عن وجهها : لقد هربَ الظلُّ من جهتي إلى جهتك ، تركتُ لها مساحةً بجواري لتنتقلَ نحوي، اصطدمتْ بدلَّةِ القهوةِ فأفرغتْ كلَّ مافيها على الأرض، صاحتْ من الحسرة، قلتُ لها : نفسي في فنجانٍ آخرَ وأنتِ بجواري، صدقتْني المسكينةُ ودخلتْ لإعدادِها في مطبخٍ صغير، لحقتُ بها خلسةً دون أن تشعرَ بي، وجدتُ علبةً قديمةً قد امتدَّ إليها بعضُ الصدأ، وبهاراتٍ تفوحُ من الثقوبِ التي تعلوها ، سمعتْ صوتَ جلوسي على كرسيٍّ قديمٍ من الخشبِ لديها فالتفتتْ إليَّ وهي تشتمني على طريقةِ العجائزِ الطيبات، فرغتْ من التحضير، طلبتُ منها أن يكونَ آخرَ فنجانٍ في مطبخِها المتواضع، صبَّتْ لي والقهوةُ تثورُ فأشرتُ إليها بأن تضعَه على طاولةٍ صغيرة، تناولتُ العلبةَ القديمةَ وبها خلطتُها السرية، شممتُ رائحةَ شبابها ، ذرفتْ عيناها، قالت يرحمُه الله ، هو الذي جلبَ لي هذه العلبةَ لأضعَ فيها قهوتَه المفضلة، نسيتُ الفنجانَ فلم أشربْه وعلى أنفي شذى ذكراها.