من خصائص التعبير القرآني أنه يستعمل الكلمة الواحدة في عدة معانٍ، وفي دلالات مختلفة، حسبما يقتضيه السياق، ولكل معنى قيمته البلاغية والدلالية.
ليس المقصود -هنا- كلمة “لِمَا”، فهذا تركيب مختلف يتكون من اللام المكسورة – وهي حرف جر- و”ما” وهي اسم موصول لغير العاقل، بمعنى الذي أو التي، ومنه قوله تعالى :” وآمنوا بما أنزلت مصدقا لِمَا معكم…” البقرة 40 أي للذي معكم .
وليس المقصود كلمة “لَمًّا” الواردة في قوله تعالى: ” وتأكلون التراث أكلا لمًّا ” الفجر 19 ،فهنا بمعنى “شديد” وجمْع بين الحلال والحرام ، وهي من لمَّ يلمُّ لمًّا ، وفي الأصل هي: لمٌّ ، لكنها جاءت في الآية منصوبة ؛ لأنها صفة لمنصوب ، وهو “أكلًا”، والصفة تتبع الموصوف كما هو معروف.
وليس المقصود كلمة “لَمَا ” بفتح اللام والميم ، الواردة في قوله تعالى : ( … لَمَا آتيتكم من كتاب…) آل عمران 81 فاللام موطئة للقسم، “ما” اسم موصول .
وإنما المقصود هو كلمة “لَمَّا” بفتح اللام، وتشديد الميم ، فقد استخدم التعبير القرآني “لَمَّا” -بهذه الصيغة – في ثلاثة معان على ثلاث صور، أفصُّلها فيما يلي:
*أولا*:
*لَمَّا حرف نفي وجزم وقلب*
النفي والجزم معروفان، أما القلب فمعناه قلب زمن الفعل من الحاضر إلى الماضي.
“لمَّا” تنفي حدوث الفعل، لكن يُتوقَّع أن يحدث.
مثال:
بدأ الاجتماع ولمَّا يحضر أحمد .
هو لم يحضر، ولكن متوقع حضوره .
ومنه في قوله تعالى : (قالت الأعراب آمنَّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم ) الحجرات14 ، أي لم يدخل الإيمان في قلوبكم بعد، ويُتوقَّع له أن يدخلها.
*ثانيا*:
*لَمَّا حرف استثناء* بمعنى “إلا” يفيد الحصر، وذلك لو تصدَّر الجملة حرف نفي أو حرف بمعنى النفي، وهو المطَّرد في القرآن الكريم.
كما في قوله تعالى ( إِنْ كل نفس لَمَّا عليها حافظ) الطارق4 ، إنْ هنا بمعنى ما النافية، وجاءت الآية باستثناء مفرغ، مثل قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول ) أي محمد رسول ، ومثلها : ( إن أنت إلا نذير ) أي ما أنت إلا نذير، أي أنت نذير .
فآية الطارق – بعد حذف النفي والاستثناء – معناها: كل نفس عليها حافظ، أي مَلَكٌ يحفظ عليها أعمالها للحساب يوم القيامة.
وأيضا وردت بمعنى “إلا ” الاستثنائية التي أفادت الحصر في قوله تعالى: “وإنْ كلُّ ذلك لمَّا متاع الحياة الدنيا” الزخرف 35 أي: ما كلُّ ذلك إلا متاعُ الحياة الدنيا.
وكذلك في قوله تعالى: “وإنْ كل لمَّا جميع لدينا محضرون” يسن 32
*ثالثا*:
*لمَّا الدالة على الظرفية الزمانية*
وهي بمعنى حينما
فقد جاءت مقرونة بالفاء” فلمَّا ” ومنها : ( فلمَّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم …) البقرة 17
وبالواو” ولمَّا” ومنها : ( ولمَّا برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا …) البقرة 150
وبدونهما “لمَّا”، ومنها : ( بل كذبوا بالحق لمَّا جاءهم …) ق 5
قد تأتي لمَّا الظرفية شرطية، فتكون اسم شرط غير جازم يليها فعل شرط وجواب شرط ، وقد تأتي غير شرطية.
مثال للظرفية غير الشرطية: ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) السجدة 24 أي حينما صبروا ، أفادت الظرفية الزمانية فقط ،ولم تفد الشرط.
أما الشرطية فهي الأكثر، ومن خصائصها -حال كونها شرطية- لابد من دخولها على فعلين ماضيين، ففعل الشرط وجوابه لابد أن يكونا ماضيين، ومن ذلك :
(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح…) “سكت فعل الشرط وهو فعل ماض ، أخذ جواب الشرط وهو فعل ماض.
كذلك في قوله تعالى 🙁 ولما آسفونا انتقمنا …) “أسفونا فعل الشرط وهو فعل ماضٍ، انتقمنا جواب الشرط وهو فعل ماض.
*ما بعد لما الشرطية الظرفية يكون على صورتين* :
تليها أنْ
وبدون أنْ
جاءت مع “أن” ثلاث مرات في القرآن الكريم ، يوسف 96 القصص 19 ، العنكبوت 33
*ما الفرق الدلالي في معنى “لمَّا” في الحالين ؟*
في الآيات التي تليها “أن” تدل على تأخر حدوث الفعل ، ومنها :
(فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما…) هنا موسى عليه السلام لم يكن متعجلا في رغبته في البطش بذلك الرجل؛ لأنه قد فعلها من قبل، كما حكى القرآن الكريم 🙁 فوكزه موسى فقضى عليه) القصص 15 ، وفي المرة الثانية تباطأ ولم يتعجل ؛ لذا جاءت بعدها أن لتوحي بطول مدة التوقف بين الفكرة والفعل.
كذلك في قصة يوسف عليه السلام، كان أبوه يستبطئ عودة يوسف، وحزِنَ على فراقه حزنا عميقا، وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ؛ لذا حَسُنَ أن تأتي “أن” بعد “لما” لتشير لطول الفاصل الزمني بين قلق يعقوب عليه السلام والبشارة:
(فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) يوسف 96
أما حال جاءت “لمَّا” بدون “أن” – وهو الأكثر – فتعني حدوث الفعل بسرعة ، دون استبطاء ولا إبطاء ، ومنها – على سبيل المثال – (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح ) الأعراف 154
والله أعلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق يسن الطاهر*
Tyaa67@gmail.com**