في عصور غابرة، عانى جنود الجيوش في حضارات عدة من الشعور بوجع البعد لفترات طويلة عن الأوطان والأحبة، واتخذ ذلك الشوق صورا عدة تنال من صحتهم النفسية والعصبية، فمنهم من كان يحادث نفسه، ومنهم من يتقمص أدوارا في أحداث عتيقة مفرحة، وسُمي ذلك “نوستالجيا” ويشمل هذا المصطلح الإغريقي الأصل لفظين هما “نوست أي الوطن والحنين للبيت” و “الجيا ويعني الألم أو الوجع “، وبالتالي من كان يصيبه هذا العرض فيما بعد يصنف بأنه ذو اكتئاب ومرض نفسي.
وبعدها تغير مفهوم ومنحى تفسير هذا المصطلح وصار يطلق عبر الأجيال الأخيرة على شعور إنساني ينهش في خلايا الجميع نزفا، أو ينساب في شرايين الخلق بلسما، ألا وهو الحنين.
نوستالجيا وفق مفهوم العصر الآني عند علماء النفس والاجتماع والثقافات المختلفة يعني الحنين للماضي زمنيا أو مكانيا، حنينا يشيع البهجة في القلوب الخرِبة والنفوس المجدبة إلا من الجفاف والصدأ.
الحنين يعني الاشتياق لماضٍ، وما الاشتياق إلا ناقوس يترنم في جنبات فراغ وجدانك فيعلو الرجيع ليحملك في موجات صوته إلى مكان وحكاية وزمان ورواية أشعلت فتيل مصباحك يوما ما فملأ الوهج مشكاة روحك الخاوية إلا من غربان سود قاتمة.
أن تحن لوطن ..لمكان ..لشخص..
لحدث.. لوضع ..لحال.. لزمن..
كل ذاك نوستالجيا لكن “النوست ” اليوم اتسع ليشمل كل وطن دون الوطن الأم أي البلاد والمحضن، فالشخص الذي نحب ونشتاق وطن، والمكان الذي غنّانا نشيد سعادة في تاريخ ما وطن، والصورة التي نحتضنها بأصابعنا ثم قلوبنا وأعيننا وطن، والذكريات أوطان متفرقة والأهل الذين نقصوا بعد أن زارهم الموت خاطفا وطن مفقود، والعشرة العتيقة وطن تم النفي منه وعنه.
وعبق حجارة البيت القديم وارتشاف الطين لقطرات المطر في الأزقة المتعرجة وطن.
وعليه فهناك شوق الحبيب الجيا، وحنين إلى الحب الجيا.
في غياهب جب هذا القرن الذي تتوهم صعودك فوق المجرات رُقيّا بينما تزحف في ظلمات الأرض دنوا، يوجد حنين لامحدود لكل ماهو عتيق وقديم مبهج.
قلت ساعات الرضا في الواقع لذا يبحث الإنسان
عن سكينة قلبه في ماضٍ تولى، ويفتش بين رماد السنين وشظايا المواقف المتراكمة عن وجه باسم مبهج في ثنايا حدث أو ذكرى أو مكان أو فترة زمنية جميلة أو شخص كان له مكانة في حياته.
ومن أقسى أنواع الحرمان الحرمان من الأمن ممثلا في صدر أم أو كنف أب أو حنان زوج أو سند أخ وأنس صديق أو فقدان تراب وطن ونسمة هواء زقاق يقودك لأريج جنبات بيتك العتيق.
وفي مرحلة العجز من العمر يحن الكبير لرفقته وأقرانه الذين تبتلعهم دوامة الموت والرحيل واحدا تلو الآخر حتى يتمنى أحدهم سأما أن يغادر مثل من تركوه بعد أن ملّ تكاليف الحياة وتكرار مشاهدها بلا ونيس ينطق بذات اللغة التي ينطقها، فاللغة ليست فقط الأبجدية والمفردات والمعاني بل لكل جيل لغته النابعة من نمط عصره الثقافي والتربوي، واختلاف اللغة من جيل لآخر تجعل الفرد يشعر بالغربة والوحدة وإن كان بين آلاف.
الحنين شعور يشكل سمة إنسانية ويعلو رنينه عند البعض ويخفت ويذبل عند آخرين، المهم ألا يتحول إلى مرض وكآبة تمنعك من التمتع بحاضرك والتفائل بالغد كونك سجينا لزَهوِ أمسٍ أفَلَ ولن يعود.
إن اشتقت لرنين ضحكات تلاشت من أركان شفتيك وملأت دارا قديما صار أطلالا، ماعليك إلا بالتبسم الفوري لنعمة عافية تملكها بدلا من مرض يتملكك ونعمة رضا يملؤك عوضا عن سخط يسكنك، وهذه الابتسامة السحرية لاتنفي النوستالجيا بل تهذبها لنعيش بسلام .
د.فاطمة عاشور