دام الصمت مطبقًا عليهم إلى أن اختفت كليًا كأن لم يكن في هذه الفسحة مذنبًا إلا جسد السياف الذي هوى جمادًا هامدًا، وفمه يقبل الأرض التي بعد فترة سيتحلل فيها وسيعتبر مثل فص ملح ذاب في كوب ماء.
وبعد أن أقلعت بقدراتها الخارقة للطبيعة أصبحت شديدة الاشتعال ولي أن لا أتصور ما سيحدث بعدها، عندما تهبط على أرض قرية جديدة، من دون الالتفات ولو التفاتة إلى الوراء.
قبل ان تحط سيطر الرعب على الأهالي عندما ظهر في سواد تلك الليلة الحالك أكبر علامة نارية فارقة، بلهبها المتأجج أفزعت نفوسهم، وأضعفت قواتهم وأنهكت أجسادهم، فكلما اشتدت جلدتهم بسياطها وكوت أرواحهم، شلت حركاتهم وأذهبت عقولهم فلم يعد لديهم تفكيرًا سليمًا يرجعون ويحتكمون إليه.
وفيما هم على هذا النحو من الخوف تضاءلت واختفت فلم تعد هناك إضاءة ولا حرارة تجمد كل شيء لبرهة كأنها هدنة قضت مدتها لتعود أسوء من ذي قبل.
تحولت تلك الليلة ليلة استثنائية.. ليلة الأزواج المتضادة، فكل شيء فيها يحمل من كل نقضين اثنين.. ظلام ونور.. برق ورعد.. هدوء وضجيج.. ضحكات وأنين.. نعيق الغربان وتغريد العصافير، فحيح الأفاعي وأغادير المياه الجارية، خطوات أقدام تارة تسمع وتارة أخرى يقف أثرها عند آخر طبعة قدم على الأرض، تقهقهات ساخرة تعلو وتنخفض وكائنات مخيفة تزور البعض والبعض الأخر تهجره، تظهر وتختفي، وفجأة بزغت العلامة النارية وتوشحت ظلام الليل، تحولت إلى امرأة ذات جناحين كبيرين، رفرفت بهما كطائر ضخم ثم نأت وغارت في سماء الدنيا حتى حجبت عن العيون رؤيتها.
رحلت وتركتهم في ذهولهم الغامر يكابدون خسائرهم الفادحة، بعضهم كليم يتوجع ويئن وبعضهم دخل في نوبة بكاء هستيري، وهناك من حولهم شرذمة قليلة تربت على ظهورهم وتحاول أن تواسيهم، سكت من سكت واستمر من استمر في نحيبه الحاد إلى أن أنفلق الصبح.
حينها خشي أحدهم والذي كانوا يطلقون عليه اسم (أيوب) لشدة صبره على متاعب الدنيا والاعيبها من أن تنمو فيهم طفرة مكتسبة من الحزن المستديم، فتطول ولا تقصر، تكبر ولا تصغر، فيستسلمون لها ويتقوقعون في داخل أنفسهم المكتئبة.
لقد تعلم (أيوب) من الحياة دروسًا كثيرة مما جعله مؤهلًا للتدريس في مدرستها الإجبارية الضخمة، وقد عاهد الله منذ ذلك اليوم الذي تعين فيه ألا يكتم علمًا في صدره عن سائل أو محتاج.
كان أول درس تعلمه رغم قساوته أن الحزن لا يكسر غصنًا بل يتلف جذورًا ويسمم مواضعها، ومن هذا المنطلق أخذ يواسيهم ويصبرهم ومن ثم حاول إيقافهم عند هذا الحد لكن دون جدوى. وعندما رأى أن صبرهم نفذ صرخ فيهم ونهرهم متسائلًا: “هل البكاء أعاد لي ابنائي الذين رحلوا دون عودة؟ هل رد غنائي المسلوب وازال فقري؟ هل منع نظرات الشفقة أن تصلني وحفظ ألسنة كانت كالأسهم المسمومة ترشق قلبي المطعون تتهمه وتتهمني؟
لم يرد أحدًا عليه ثم أجاب على أسئلته بقوة: “بالطبع لا….”.
كان الجميع كالمقاتلين المهزومين متدهورين ما بين مرميين ومرصوصين كالركام على ساحة الوغى، وهم عن أيوب ليسوا ببعيد، تتبعه أعينهم وأنفسهم منغلقة على ما بها من مصاب.
شعر (أيوب) بدوار فمال قليلًا حتى كشف عن كسرة زجاجية سميكة منفوخة نصفها مغمور في خاصرته وبقيتها ظاهر يلمع ويقطر دمًا، “كن حذرًا” قالها صديقه (المتوهم)، بيد أن (أيوب) أشار إليها سائلًا إياهم ودون أن يلمسها: “هل ألم هذه انساني ألم الم بي أم كنت جثة هامدة لا تحس يقتات منها الضربان حتى يشبع؟”
الروح/ صفية باسودان