جُبلت النفس البشرية على حب الجمال والكمال، ومن الفطرة أن يسعى المرء للتزين والتجمل كونه قد خلقه الباري في الأصل على أحسن هيئة وفي أحسن تقويم، ويشاركه في ذلك سائر المخلوقات، فبهاء المظهر يتجلى في المخلوقات حيث معايير الجمال ملائمة لقدرات المخلوق بل وواجباته واحتياجاته، والأرض وما فيها وما عليها تشكل معرضا مفتوحا دائما بلوحات أخاذة وعبقرية آسرة.
ومع هذا الجمال تتباين وبحدة مظاهر النقص والقصور، وليس نقصا في صنعة الباري حاشاه جل في علاه فهو الكمال والكمال ماصنع، ولكنه القصور الناتج عن عبث الإنسان وفساده، فحتى ذلك القبح الذي نراه في شكل أحدهم بشرا كان أو غيره يظل قبحا مقبولا منطقيا يترجم مبدأ
” الدرجات والاختلاف ” الذي قننه الباري.
أما القبح الذي هو صنيع البشر فهو قبح منفّر لا دافع له سوى انحراف النفس أو فساد العقل أو طغيان الإنسان، لذا من دواعي السخرية أن يهتم البشر بالتزيين قبل التخلص من النقص، بمعنى آخر ما فائدة الحدائق والمنتزهات والسماء قد لوثتها الغازات وزاحمت غيماتها الأقمار الصناعية، وكيف هي جرأة البشر حين يضعون الغرامات ويسنّون القوانين للحفاظ على النظافة والنظام وهم من يقطعون الشجر ويدمرون النهر ويرمون قاذورات المخدرات ويهددون الأرض بالفناء نوويا وجرثوميا!.
يا لسخف من يحاسب على إلقاء محرمة ورقية والقيم تعاني من ذبح ودفن وفناء بلا رفة جفن.
ملأ ابن آدم الأرض فسادا فتراجعت الأخلاق وساد الانحراف ويتشدق عن الجمال وتحقيقه، مسابقات لملكات جمال وفنانات قد تجردن من جمال يسير من حياء يغلف جسدها العاري، ولفيف من رجال ونساء يلجؤون للسحر والاحتيال والقذف وكل جريرة فقط لتحقيق المصالح الشخصية.
تلك اللاهثة التي ملأت جوف الأرض نفايات كي تتجمل حقنا ونفخا، وتلك البائسة التي ما تركت شبرا في جسدها لم يتجمل وروحها لا تزال عطشى لما هو أجمل، وقلبها عامر بالغل مثقل، ونفسها تستنجد من قيدِ مكبِّل .
هنا نجد الخلاص في الدرر القرآنية، حكمة خفية لا يدركها إلا عارف، في قوله تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ * قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)) (الكهف).
هنا يصف المولى القرآن بالتفرد بالجلال والكمال ونفي العيب، لكن الأسلوب القرآني وكديدنه في الروعة والبراعة يعلمنا مبدأ (التخلية قبل التحلية) فالمنطقي أن يتبع الحال(قيّما) المفعول به (الكتاب ) لكن البلاغة القرآنية فصلت بينهما بقوله جل جلاله(ولم يجعل له عوجا ) إذ أن نفي العيب يسبق الكمال فالمولى بدأ بنفي العيب والعِوج والميل عن القرآن أولا ثم وصفه بأنه قيّم وكامل ومتفرد، وفي هذا ذروة البلاغة اللفظية وقمة البراعة في تحديد المعاني، فلا كمال يسبق الخلو من النقص.
وهنا أستنتجها قاعدة عامة، ألا أزين أمرا قبل أن أخلصه من نقصه وعيوبه، فالحجرة القذرة المعبقة غبارا وفوضى لن تبدو جميلة مهما زينت زواياها بورد واضاءة ومفروشات، بل حتى صنع ألذ الأطباق والطبخات يتطلب نظافة الخضروات ونقاء المكونات.
والقلب المليء حقدا وحسدا لن يتوهج وجه صاحبه سماحة وبهاء وإن استمر مقيما في عيادات التجميل والجراحة.
والعلاقات التي ملأها الخلاف بعدا وشوكا وتراكمات لن تنقيها باقة ورد تُلقى ولا حساب مصرفي يُرصد ولا ابتسامة زيف تتردد على شفاه كاذبة، نقّوا العلاقات بالحوار الهادىء والعتاب اللطيف ووضع الأسس الصحيحة وتصفية القلوب والتسامح حتى بدون عتاب ومن ثم قدموا المجاملات والكماليات حتى تتحقق المصداقية.
حتى في علاقتنا مع الخالق، ليتنا ننظف القلب من أمراضه واللسان من مرارته والسلوك من قصوره قبل أن نقف لساعات نصلي وندعو، فكم من مؤذِ يظن أن صلاته تكفيه بينما أغلب أهل النار ما بين آثم لسان وحاقد قلب وقليل يقين.
كوكبنا الأزرق الجميل هذا، الذي ارتضاه المولى لنا سكنا وموطنا ليتنا نحفظه بلا حروب وأسلحة ودمار قبل أن نبني ناطحات هنا ونزرع بساتين هناك.
وصدق ربي فلا كمال إلا بخلوّ من عوج،
اسحب مرارة العلقم قبل أن تقدمه لي دواء ..
(التخلية قبل التحلية ).
د.فاطمة عاشور