ـــــــــ
استمعت لهذه القصيدة من شاعرتها في أمسيات قافلة النخيل التي ضمت مجموعة من الشواعر والشعراء- من بينهم الشاعرة حوراء الهميلي- طافت تلك القافلة بعض مدن المملكة، وعطَّرت مساءاتها بشعر عذب رقيق.
شدَّني النص؛ مما جعلني أبحث عنه مكتوبا، فتواصلت مع الشاعرة عبر حساباتها؛ فوجدتها أريحية التعامل، لطيفة المعشر فزودتني بالقصيدة، وكانت مفاجأتي عندما قالت لي إنها فرغت من القصيدة قبيل صعودها للمسرح بلحظات.
إذن هي قصيدة ولدت مكتملة، فلم تحتج إلى كثير مراجعة، ولا كبير تنقيح، وهذا يوحي بقدرات الشاعرة الفائقة.
القصيدة بعنوان “أغنيةٌ ما غادرت عشَّ فمي” وأنا أتفق مع الشاعرة في أن هذه القصيدة أغنية فعلا – كما أسمتها – أغنية صدَّاحة منغمة منمقة مموسقة، شدَتْ بها الشاعرة حوراء، لكني أختلف معها في قولها أنها لم تغادرها، بل هي قصيدة طافت الأرجاء، وغشت القلوب، ودغدغت المشاعر، وسارت بها الركبان.
“أغنيةٌ ما غادرت عشَّ فمي” هذا العنوان في حد ذاته قصيدة؛ لما يحمله من معنى عميق، وصورة بلاغية؛ إذ شبهت القصيدة بالأغنية مرة، وشبهتها مرة أخرى بالعصفور الذي له عش، لكنه ليس على شجرة، وإنما على فم الشاعرة.
تناول النص علاقة صميمة أنشأتها الشاعرة بينها وبين النخلة، فالشاعرة من الأحساء التي تعد مكانا لنمو شجر النخيل وانتشاره.
علاقة قوية وبها اتحاد ما بين النخلة والإنسان، أنشأتها الشاعرة حتى شخَّصت النخلة؛ فصارت توأما لها:
أبصرت أمي تربينا سواسية فقلت في خاطري: هل كنت توأمها؟
هذا الاستفهام التقريري الذي ضمَّنته بيتها أعلاه يوحي لنا بأن نجيب بنعم، فالنخلة والشاعرة نشأتا معا، وكانتا متساويتين في تلقي العناية والرعاية بينهما.
فالنخلة فعلا توأم شاعرتنا؛ فقد أبصرتْ أمها تربيهما معا، ورأت أباها يمد كفيه ليدعمها.
وشاعرتنا ترافق النخلة التوأم في كل الأوقات:
في الصحو كنت أسليها ألاطفها في النوم أحسب وجداني مكلمها
كما استمر الاتحاد الوجداني بين الشاعرة والنخلة حتى في حماية الله لهما:
ما خفت من عارض نبضي توهمه فالله سلم قلبي حين سلمها
جاءت القصيدة بضمير المتكلم؛ مما يعني خصوصية المشهد ويرسِّخ صدق التجربة.
القصيدة على بحر البسيط ، بتفعيلاته المزدوجة ، وهو بحر رقيق عذب، يتسع لحشد عدد كبير من الصور والمعاني.
وحرف الروي هو الميم المفتوحة التي وليَها هاء وألف، وهي قافية تتطلب إتقانا وحذقًا؛ لأن الشاعرة تضطر لأن تأتي بالأفعال منصوبة؛ لتستقيم حركة الروي، كما في:
“ليدعمَها” في قولها:
فمذ نعومة أظفاري رأيت أبي والنخل كفاه ممدودة دومًا ليدعمَها
وكذلك “لأفهمَها” في قولها:
في بيتنا نخلة كانت تقاسمني طفولتي كم أسرت لي لأفهمَها
وأن تأتي بالأسماء في موقع النصب كذلك، كما في:
حتى الربيع تمشى في مزارعها مسائلا أي فصل كان موسمها
فقد جاءت كلمة “موسمها” منصوبة لأنها خبر كان.
وهكذا في بقية النص.
يبرز التشخيص بشكل واضح، وبصورة جلية في هذا النص؛ إذ تجعل الشاعرة النخلة إنسانا في كل تفاصيلها، إنسانا نشأ معها وتغذى من أمها، ولعبا معا، وناما معا، إنسانا له عين …
عيونها لم تكن إلا عواطفها سبحان من في قلوب الناس قسمها
ثم تنظر شاعرتنا بنظرة شاملة لانتشار النخل في الأحساء عبر التاريخ فتستعير الأسماء التاريخية للمنطقة، وتبيِّن وجود النخل بها منذ القدم، وتؤكد ارتباطه بتلك الأرض:
“جرهاء” ما مسها التاريخ وانتفضت لم تبد من طرقه المضني تبرمها
تمشي بكل شموخ وهي واثقة ما أجمل النخل في “هجر” وأعظمها
وتبرز الشاعرة فضل النخيل؛ تأثرا بالهدي النبوي حينما شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة ، فالنخل عند الشاعرة يمد خيره للناس، حتى غير الإنسان ينال من خيرها ، هنا صورة جمالية تستعصي على الإحاطة بمضامينها؛ حيث إن العطر أصيل في الوردة، فإن غاب عنها عطرها وفقدته، فالنخلة تعطيها من عطرها عطرا:
روائح النخل في أثوابها علقت لو أعوز الورد أشذاءً تنسمها
ولو توقفنا قليلا عند دقة الشاعرة في اختيار المفردات التي تخدم فكرتها، وتنسجم مع نسيج النص نجد عجبا، ومن ذلك:
النص تحدث عن النخلة في جميع جوانبه؛ لذا استخدمت الشاعرة عددا من المفردات التي تعد من مكونات النخلة، ومنها: الجذع ، السعفة ، التمرة ، عذوق ، حصير …
كما تناولت مفردات ذات صلة بالنخلة، ومنها: لتصرمها، تقطف …
وبما أن القصيدة عن النخلة فيجدر بالشاعرة أن توظف مفردات الطبيعة بشكل كثيف، فالنخلة جزء أصيل من الطبيعة، وقد بدا ذلك جليا في كلمات مثل:
الخضراء، الربيع، البساتين، المزارع …
ولأن النص يصف رحلة التوأمة بين الشاعرة والنخلة، فلابد أن يكون الزمن حاضرا؛ لأنه الوعاء الذي تمر عبره تلك الرحلة، فنجد كلمات مثل: الضحى، الليل، الصبح، العصر…
وكما برز الزمان، فلم يغب المكان بعبقريته المعروفة؛ فقد جاءت: الأحساء، القيصرية، هجر …
كذلك امتاحت الشاعرة شخصيات دينية، لها قيمتها فنجحت في توظيف قصصها، ومنها: نوح، مريم، هاجر …
برز التناص في القصيدة؛ تأثرًا بالقرآن الكريم، وخاصة مع قصة مريم عليها السلام، وهذا أمر موفق من الشاعرة؛ لأن لمريم صلة بالنخلة، كما في قولها:
هَزَّتْ جذوعًا
وذلك من قوله تعالى مخاطبا مريم: ( وهزي إليك بجذع النخل…)
وأيضا قولها:
لهفي عليها إلى صحرائِها انتبذتْ خوفًا فأمَّنَها الباري وأطعمَها
من قوله تعالى عن مريم أيضا: ” …فانتبذت به مكانا قصيا”
فأطعمها الله رطبا جنيا، وجعل تحتها سريا تشرب منه…
وكذلك تناص مع قصة نوح وابنه، في قولها:
من عهد نوح جرى الطوفان فانتبذت كل الخليقة لا طود ليعصمها
من قوله تعالى : ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)
كما برز التناص مع الحديث في قولها :
لها شددت رحالي طفتها ولها وما تعجلت أشواطي لأختمها
مع قوله صلى الله عليه وسلم : ” لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد …”
وتبدع شاعرتنا في توظيف قصة هاجر وابنها إسماعيل، وقصة نشوء بئر زمزم، تفوقت فيه الشاعرة تفوقا عجيبا، لا أظن أن أحدا سبقها على مثل هذه الصورة:
مَن ألهمَ الرملَ أنَّ النخلَ سيدةٌ عطشى فأجرى لها باللطفِ زمزمَها؟
هل هاجرٌ ألبسَتْها روحَها ظمأً فهرولَ الماءُ للأعلى لِيخدمَها؟
وقد تناصت مع الخنساء في قولها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار …
حين قالت:
لكل من يبتغي للجرح عشبته وكل عين قذت تشكو تألمها
كثرت الأساليب اللغوية في النص، ومنها:
الخبر؛ إذ بدأت به قصيدتها:
يُروى عن النخلِ أنَّ اللهَ كلَّمَها وأنزلَ الوحيَ في هجرٍ وألْهَمَها
والإنشاء بجميع أنواعه، ومنه الاستفهام الذي ورد بكثرة في النص، ومنه:
هل كنت سابحة في رحم طينتها أشمها كلما عطر توحمها
كما استخدمت أسلوب الشرط الجازم، وغير الجازم في النص في بعض أدواته ومنها: لو، من، مهما…
ومن ذلك:
لو خيروني بقاع الأرض قلت لهم هي الضمان وحاشا أن أسلمها
وأسلوب التعجب بدا رائعا، وفي موضعه تماما، وذلك في قولها متعجبة من جمال النخل وعظمته:
تمشي بكل شموخ وهي واثقة ما أجمل النخل في هجر وأعظمها
وجاء التقديم والتأخير كثيرا، وذلك لبيان أهمية المقدَّم ولغرض التخصيص، ومنه قولها:
في العصر ترسل للجيران (نقصتنا) تمرية ذقت أشهاها وأطعهما
هنا يبدو الزمن أهم من الحدث؛ لأن العصر هو وقت تبادل الزيارات، والمشاركات الاجتماعية؛ حيث ترسل للجيران نصيبهم من التمر الشهي الرطب؛ لذا كان التقديم أولى لإبراز أهمية المقدَّم وهو الوقت.
تراوح النص بين الجمل الاسمية والفعلية، فبرعت الشاعرة في التنويع بينهما، واستعمال كل منهما حسب حاجة المعنى، دون تعنت؛ فالاسمية فيما يخص الثبوت والاستمرار، والفعلية فيما يعني التجدد والحدوث.
فمن الاسمية:
كل الأغاني تجلت لي لأنشدها لم أستطع بعد رؤياها تكتمها
ومن الفعلية وهي أكثر :
غنيت للحب للأحلام عاشقة لعلها صادفت يومًا متيمها
وغلبة الأفعال على الأسماء في هذا النص أمر موفق جدا من الشاعرة؛ لأن النص يحكي رحلة صلة بين الشاعرة والنخلة، ويذكر أحداثا وتنقلات، ويُبرز شخصيات كالأب والأم، والشاعرة والنخلة… لذا من الطبيعي استخدام الأفعال بكثرة؛ لتجسد ذلك الواقع المتجدد المتحرك النشط، فبنية القصيدة تعتمد الحوار المثمر بين الشاعرة والنخلة، وبين الشاعرة ونفسها.
صوتيا، فقد تكررت بعض الحروف متحدة المخرج أو متقاربته؛ مما أعطي جرسا موسيقيا، كما ورد في تكرار حرف السين مع الصاد في هذين البيتين:
في بيتنا نخلة كانت تقاسمني طفولتي كم أسرت لي لأفهمها
في الصحو كنت أسليها ألاطفها في النوم أحسب وجداني مكلمها
وكذلك تكرر حرف الطاء خمس مرات في بيتين متتاليين :
هل كنت سابحة في رحم طينتها أشمها كلما عطر توحمها
أمي التي قاسمتنا طيب مرضعها لن تفطم الخير من ذاتي وتفطمها
أما مظاهر الجمال في النص فيعجز عن حصرها العادّ، وحسبنا من قلادة الجمال ما أحاط بعنق القصيدة:
إذ تبرز الاستعارات بكثرة ومنها:
كانت تمشط صبحي في جدائلها بماء روحيَ شاءت أن تحممها
فقد شبهت الشَّعر بالصبح، وجعلت الاستحمام بماء الروح، ما أبهى تلك الصورة المركبة المتعددة!
ونجد الطباق بمفهوم التضاد الذي يوحي بتوضيح الأشياء، بين الصحو والنوم/ اعوجت وقوَّمها/ عطشت، روائي…
أما الجناس الذي يعني تشابه كلمتين في الشكل واختلافهما في المعنى، ومن فائدته أنه يعطي الكلمات جرسا موسيقيا رائعا يطرب السامع، فقد ورد في قولها:
هَزَّتْ جذوعًا وما هُزَّتْ كرامتُها فالله منذ برى الأكوان أكرمها
بين هَزَّتْ وُهُزَّتْ …
والبيت نفسه يحمل طباق سلب بين الكلمة المثبتة والكلمة نفسها منفية : هزت وما هزت
رغم كل هذا الجمال الذي يتخلل مسام النص في جميع جوانبه، نجد الشاعرة تتحدث عن عجزها عن الإحاطة بوصف دقيق للنخلة:
مهما اجتهدنا وأولنا صبابتنا معشار ما يبلغ القاموس معجمها
لا ليس تدركها الأشعار متفق أن القصائد لا تكفي لتنظمها
قبل الختام، أقول إن النخلة تستحق هذا التوثيق، وهذه التوأمة بينها بين الإنسان، فقد جاء حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن من الشجرِ شجرةً لا يسقُطُ ورقُها وإنها مثلُ الرجلِ المسلمِ قال : فوقع الناسُ في شجرِ البوادي وكنتُ من أحدَثِ الناسِ ووقَع في صدري أنها النخلةُ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ : هي النخلةُ قال فذكرتُ ذلك لأبي فقال : لأن تكونَ قلتَه أحبَّ إليَّ من كذا وكذا)
بقي أن أقول إن من أراد أن يستكمل جمال القصيدة كما ينبغي فليستمع إليها من شاعرتها إلقاءً ، فهي تملك هدوءا، ونبرات معبرة، وصوتا واثقا، مترجِمًا جميع المعاني بدقة متناهية، وموحيًا بظلال الكلمات، ومفسرًا مرامي العبارات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com
قراءة
للدكتور طارق يس الطاهر لقصيدة حوراء الهمبلي جميله جدا ونسأل الله التوفيق لنشر هذه الثقافة العربية وخاصة من بلاد الحرمين فإنها الأولي بكل ما يخص القرآن ولغته