بقلم : احمد حسين الاعجم
الشِّجن مكان مليء بالخضرة والماء وكل مباهج الحياة
يقع الشِّجن شرق قرية المحلة على بعد ثلاثة كيلو متر تقريبا
وعلى وادي غوان
قبل ما يعرف حاليا ( بالكسّارة )
وتحديدا شمال طريق الكسّارة
في الشِّجن ولدت
وفيه تعرفت لأول مرة على وجه والدتي رحمها الله
وعلى وجوه اخواني واخواتي
الا وجه واحد..
لم اره
ولم اكحّل عيناي بملامحه
وهو وجه والدي رحمه الله
الذي توفي قبل ان اتمكن من حفظ ملامحه
وتعرفت ايضا على وجوه جيراننا وكلهم من الاقارب
وحفظت اسماءهم
حيث كانت البيوت قليلة لاتتجاوز خمسة بيوت
وحفظت تفاصيل بيتنا الذي كان عبارة عن ( سِقْفَة) وهي بناء صغير من الخشب والسعف
وهكذا ارتبط الشِّجن اسما ومكانا بلحظات الوعي الاولى بالحياة
واصبح للاسم والمكان بصمة في القلب لاتموت ابدا
في الشِّجن عرفت السَّلَم والسَّمْر والعروج والدوم والرّنف والضّبر
والبشام والقَضَب والمَضَّ
وعرفت الثِّب والخُرْص والحِبَلة
وفي الشِّجن عرفت الهجف والقنان والصعو وابو معول والشغاغة والحندية والسفّاع والنسر
باختصار
في الشِّجن تعلمت ألف باء الحياة
عشت طفولتي في الشِّجن
وحتى بعد انتقالنا للقرية
المحلة غوان للدراسة
بقيت متعلقا بالشِّجن واقضي معظم اوقاتي فيه عند اختي التي بقيت تسكن هناك مع زوجها ابن عمي ( يحي ابر احمد ) رحمهما الله تعالى
من ذكريات الشِّجن
انه كان بجانبه ( كسّارة ) تتبع لشركة بن لادن
وكنا نذهب خلف الكسّارة لجلب الماء من مكان يسمى ( المَعَايِنْ )جمع ( مِعْيَن )
وهي عبارة عن نبع ماء لا ينقطع
اضافة الى ( الفضايا ) جمع ( فَضِيّة )
وكلها وسط وادي شهدان
كنت انا مجرد مرافق لصغر سني لكني اتذكر كثير من التفاصيل
وكان اكثر موظفي الكسّارة من ابناء بلاد الشام
ونشأت صداقة كبيرة بين مجموعة منهم وبين ابن عمي ( يحي ابر احمد ) رحمه الله
حيث كانوا يأتون الى بيته بشكل شبه دائم
لازلت اذكر اسم اثنين منهم وهما ( محمد ) و( عوض )
وكانوا يملكون اداة دائرية يقومون بتشغيلها بالاغاني
كانوا يسمونها (اسطوانة )
كانت المرة الاولى التي نراها ونسمعها
وطبعا لم نكن نفهم الاغاني
لكن تعجبنا الموسيقى
وسحر الالة ودورانها
وكانوا يأكلون معنا عيش خمير وحالي ولبن وحقنة وقطيبة و( ثريث )
وسمن وخلاصة
وكانوا يساعدوننا في كل ما نحتاجه من خلال معدات الشركة
اذكر انهم كانوا احيانا يأتون مشيا على الاقدام ومرات على سيارة تشبه الهايلوكس الحوض غمارة وحدة لكن لا اعرف اسمها
واذا جاءوا في سيارة فهي فرصتنا لفتح الابواب والركوب في الغمارة ودق البوري بشكل مستمر
حيث كان الواحد منا اذا دق بوري السيارة يشعر انه اصبح يجيد قيادتها !!
ومن ذكريات الشِّجن ان الكبار كانوا يذهبون يوم العيد الى القرية لاداء صلاة العيد وعند عودتهم
نستقبلهم نحن الصغار وقد لبسنا ملابس العيد الجديدة نستقبلهم في الطريق فيقبّلون رؤوسنا ويقولون لنا عبارة خالدة
لا تنسى ولا تموت وهي
( كبير بِكُبر العيد )
ثم نعود معا الى البيوت وقد جهزت النساء طعام العيد فنجتمع جميعا كبارا وصغارا على وجبة العيد وسط اجواء مليئة بالفرح والسرور والبهجة
وفي عيد الاضحى بعد وجبة العيد يتم ذبح الاضاحي ونحن نتفرج
وننتظر ليعطونا ( كلاوي ) الذبيحة لنشويها ونأكلها
ثم تقوم كل اسرة بتقطيع اللحم الى قطع صغيرة تسمى ( المحشوش )
حيث يجتمع الرجال والنساء بعد التقطيع للقيام بعملية ( الحشّ )
وهي طبخ المحشوش
وايضا تقطيع اللحم ونشره على حبال بعد ملحه لحفظه وتخزينه لوقت الحاجة ويسمى ( خَزِين )
وكان من اجمل مافي العيد عبارات التهنئة بالعيد
مثل : يقول الاول
تلحقكم بركة العيد
فيرد الاخر
علينا وعليكم تعود
ثم يقول الاول :
والعافية والسمع والنظر
ويعقل عليك بهاذلا الطيور
ومعناها ( يحفظ لك الله ابناءك ويسعدك بهم )
وان شاء الله حاج وممدّن
وغيرها من العبارات البسيطة والصادقة
ايضا كانت ايام العيد ايام تزاور مع السكان المتباعدين
حيث كانت هناك اماكن مثل الشِّجن فيها سكان ومن تلك الاماكن
المَبْرُوقْ – ومِرْمِدَة- وأبو الغَرَفَة وغيرها
حيث ياتي الى الشِّجن اسر تربطنا بهم علاقة ( سِمَايَة)
حيث نزورهم في عيد
ويردون الزيارة في العيد الاخر
وحينما يجتمع الرجال في الزيارات يقومون بالرقص
رقصة تسمى ( الدِّلْع)
حيث يصفون صفين متقابلين ويرددون ابيات شعرية
ولازلت احفظ منها هذا البيت :
( ياسلام الله على من كان قبلنا
جينا نرد العيد ونزاور اصحابنا )
ويكون مصاحبا للرقص اطلاق النار بالبنادق مما يضفي حماسا عظيما على العيد
كان الشِّجن قصة حياة متكاملة رغم صغر مساحته وقلة سكانه
لكن الشِّجن كان كبيرا بتوفر كل وسائل الحياة فيه
وكان اهله كثيرون بألفتهم ومحبتهم وبساطتهم
وحبهم للحياة
وبقي الشِّجن المزار المفضل لنا نحن الشباب الذين ولدنا ونشأنا فيه
حيث كانت اهم طقوس العيدين الفطر والاضحى لنا ونحن في القرية ان نتجمع ونذهب مشيا الى الشِّجن ونحن نردد بعض الاهازيج التي نسمعها من الكبار
حيث نقضي اليوم كاملا عند ابن عمي يحي ابر احمد رحمه الله
حتى اننا كنا نردد اهازيج او اناشيد لا علاقة لها بالعيد
مثل
(روّحنا من امسعدِيَة
لا بندق ولا جِنْبِيَة )
وبمرور السنوات
وشيئا فشيئا بدأ الناس يغادرون الشِّجن على مراحل الى القرية حتى لم يبقى في الشِّجن مع اواسط التسعينيات الهجرية ١٣٩٥ سوى ابن عمي ( يحي ابر احمد ) رحمه الله صديق عمال الشركة
حيث رفض كل المغريات
وبقي هو وزوجته في الشِّجن
حتى اواخر حياتهما رحمهما الله
حيث انتقلا الى القرية عام ١٤٢٨ وبقيا فيها حتى وفاتهما رحمهما الله
وبقي الشِّجن اسما ومكانا
مزاري المفضل شخصيا
طوال كل السنوات الماضية
حيث اذهب مشيا
ثم في مرحلة تالية بالسيارة
واتوقف حيث كنا نسكن
لاستحضر كل الاصوات والصور والاحداث
لكن الشِّجن كمكان
فقد نبض الحياة بعد انتقال اخر سكانه ( يحي ابر احمد ) ابن عمي الى القرية وبعد وفاته رحمه الله
فقد كان صوت يحي هو حياة الشِّجن
صوت ألِفَته الاشجار والطيور والطرق والتلال
صوته وهو يضحك تلك الضحكة العميقة النقيّة
او وهو يرحّب بالقادمين او وهو يولّش او وهو ينادي
او وهو يخاطب هوشه
نعم فقد كان صوت يحي لعقود من السنوات هو نبض الحياة في الشِّجن
واصبح الشِّجن بعده جامدا يلفّه الصمت والهدوء
وحتى كإسم
وبعد ان كان اسم الشِّجن يبهج النفوس ويزرع الفرح في القلوب
تغيرت الامور
واصبح اسم الشِّجن
مرادفا للشَّجَن
شَجَنٌ ..سببه
رحيل سكانه القدامى عن الدنيا
وتوقف مظاهر الحياة فيه .