محمد الرياني
وقفتُ أمامَها تائهًا لا أعي ماذا أريد؟ الوقتُ ليلًا، أعصابي هادئةٌ سرعانَ ماتلفتْ وأنا أتأملها داخلَ محلٍّ صغيرٍ يبيعُ أشياءَ ثمينة، أعدتُ طرفيْ ردائي على رأسي بشكلٍ هندسيٍّ جميلٍ وأنا أتفاصلُ معها حول السعر، لم أكن أريد أن أبقى أجادلها دون أن أشتري ولو بأبخسِ سعرٍ وبأرخصِ مايمكنُ شراؤه من عندها، قالت وهي تحدثني بلغةٍ شاعرةٍ إنَّ اسمها غِنوة، قلتُ في نفسي لم يُخطئ من سمَّاك غنوة، ناولتْني قطعةً بيضاءَ صغيرة، لم أكن أريد شراءها ولكنني ابتعتُها للذكرى، شكرتني بفرح تهلَّلَ من وجهها الذي لم أره، شكرتُها على الوقتِ الذي أزهقتُه من وقتها ، كان يحدثني عن القطعةِ البيضاء التي اشتراها من (غنوة) سال لعابُه حول شفتيه، قلتُ له وقد تناثرتْ أسنانه يبدو أنك فقدتَ بعضَ أسنانك في غيابك عني، استشاط غضبًا وقد أخرجتُه من جوِّ غرامه اللحظي، قال لي وقد نسيَ عمرُه: لم أفقد شيئًا وقد تناقصتْ أسنانه ، أنت دومًا هكذا تحب أن تنغِّصَ عليَّ بعضَ حالاتِ فرحي منذ أن عرفتُك، حملَ القطعةَ التي اشتراها ولم تفارق عينُه النظرَ إليها، التقيتُه بعد زمنٍ يتجولُ من جديدٍ يريد أن يشتري من محلِّ غنوة، سأل عنها فلم يجدها، وجدَ أخرى تبيع بقايا المحل وقد نفدتِ الرفوف ، أقبلت فتاةٌ نحوَ المحلِّ يرافقها شابٌّ أبيضُ البشرةِ تفوحُ منه رائحةُ العطر، وقفتْ قريبًا منه : عرفتْه وعرفَها، سألتْه : هل تريدُ قطعةً أخرى مثل القطعةِ السابقة ، خنقتْه العبَرات، تلعثمَ ولم يجب، نظرَ في ساعتِه السوداء القديمة ، أزال نظارتَه السميكةَ عن وجهِه ليزيلَ عوالقَ الندى عن زجاجها، قال لها بحدِّةٍ : كلا ، كلُّ ما في الأمرِ أنني جئتُ لأبحثَ عن شظايا تناثرتْ هنا كي أجمعها، نظرتْ إلى أسفل منها كي تساعده فلم ترَ شيئًا ، لم يقل لها إنه فقَدَ بعضَ عُمرِه هنا، أمسكتْ بيدِ رفيقها الصامتِ وانصرفت ، التفتتْ للخلفِ خلسةً لتتأكدَ من أنه يبحثُ عن شيءٍ فقدَه، وقفَ وحدَه يستندُ بيده على زاويةِ المحلِّ وهو يتحسرُ على العمرِ الذي لم يستطعْ ترميمَه.