محمد الرياني
فرحةٌ غامرةٌ تغمرني إذا قيلَ لي غدًا سنأخُذكَ إلى (جيزان) لِتَحلِقَ رأسَكَ أو سنَخيطُ لك ثوبًا للعيد، رُبما هي المرَّةُ الثانيةُ أو الثالثةُ بعدَ مرَّةٍ أولى ذهبتُ فيها إلى المدينةِ التي يسكنُها البحرُ أكثرَ من أهلها، في المرَّةِ الأولى ذهبتُ صباحًا على ظَهرِ موتر (القرهدي) ونصحوني بأن أُغمضَ عينيَّ إذا شعرتُ بالدُّوارِ أو أحسستُ بالغثيان، في الليلةِ التي تسبقُ صباحَ الذهابِ إلى جيزان أطوفُ حولَ بيوتِ الجيران لأخبرَهم بقصةِ السفرِ السعيدِ من الريَّانِ إلى جيزان، وأنني سوف أفطرُ سمكًا بالملوخيةِ والصلصةِ مع الخبزِ الأبيضِ في مطعمِ الاقتصادِ الذي تفوحُ رائحتُه في الشارعِ الرئيسِ القريبِ من الحلاقين والخياطين، وسأخبرهم بأنني سأشربُ التوتَ المثلَّجَ الذي يطوفُ به الباعةُ الجائلون في الميدان لأطفئ به حرارةَ الصيف، يشرقُ الصباحُ وأركبُ سيارةَ ( فورد) القرهدي من جديد ؛ بينما الذاهبون معي تصطدمُ كلماتُهم وحواراتُهم مع رُكبهم كلما ارتفعَ الفوردُ أو انخفضَ في طريقِ وادي جازان إلى لحظةِ الوصول، يمضي الوقتُ رائعًا في المدينةِ على الرُّغمِ من الشعورِ بالغثيانِ الذي قد يمتدُّ إلى حالةِ الاستفراغ، ولكنَّ المدينةَ الصغيرةَ تفرحُ وهي تفتحُ ذراعيْها لأبناءِ القرى ليتفسَّحُوا فيها وينفقوا نقودَهم القليلةَ في الميدانِ والسوقِ الداخلي ، وأتذكر أنني كنتُ أحبُّ السيارةَ (الشَّفَر) الخضراءَ لـ (ناصر مكين) وإعجابي بقيادتِه الأنيقةِ التي لا تجعلُ أمعائي ومعدتي تتحرك، وكيف أنه كان يُركبني إلى جوارِه في مقصورةِ القيادةِ لأرى الزُّجاجَ الأماميَّ وبعضَ الطريقِ وطريقةِ القيادة، ولا أنسى ذلك الفتى العربيَّ النحيلَ الذي عرَضَ عليَّ ذات صباحٍ حمْلَ صندوقٍ صغيرٍ من الطماطمِ مقابلَ أجرٍ زهيدٍ من السوقِ الداخليِّ إلى الميدانِ فأشفقتُ عليه وحمَلَه حتى إذا كان على مقربةٍ من الموقفِ خارتْ قواه وسقطَ وتناثرتْ الطماطمُ على قارعةِ الطريقِ وحملتُ مابقيَ إلى البيت، كان المتسوقون لايغادرون المدينةَ قبل أن يستظلوا في سقيفةِ (المُحَجَّب) وهو رجلٌ كبيرُ السن، وقورٌ ذو لحيةٍ بيضاء، يلجأون لبقالتِه الصغيرةِ التي وضعَ أمامَها مظلةً تقي من حرارةِ الشمسِ فيشتروا منه العصيرَ ويشربوا الماءَ لقاءَ أجرٍ بسيطٍ مقابلَ الفيْءِ الذي تخالطُه الشمس، ومع العودةِ يفكرون في الطريقِ الترابيِّ الوعرِ الذي يحتاجُ لمكوناتِ الدفعِ الرباعيِّ للموترِ حتى يتغلبَ على الرَّملِ الكثيف.
كانت جيزانُ المدينةُ هي عاصمةُ الالتقاءِ واجتماعِ أبناءِ القرى حيث يتبادلون في طرقاتِها وأزقتِها ودكاكينِها أخبارَ السيولِ والمطرِ وليالي ومساءاتِ الزواج، وأنباءِ المسافرين والعائدين، لقد كانت في نظرِنا بعيدةً وغريبةً عن القرى المتناثرةِ فحلَّ عليها التطويرُ والنماءُ واقتربتْ منها القرى والتصقتْ بها وانضمَّ إليها العمرانُ ضمنَ نسيجِ عمرانِها أشبهَ بعقود مضيئةٍ في مسرحٍ كبير ، وأمسيْنا نرى أنوارَها ومبانيها تمتدَّ في كلِّ اتجاهٍ نحوها ، ولم يعد يعرف الرائي مِن أينَ تبدأ جازان ومن أين تنتهي؟ ولم يبقَ من ميدانِها القديمِ غير الذكريات؛ لكننا في المقابلِ كسبْنا تاريخًا جديدًا من الازدهارِ وعصرًا من الحضارة، وتألقتِ الرَّيانُ وغيرُها وآنَ للجميعِ أن يشعروا بالفخرِ والاعتزازِ بسببِ أنَّ بوصلةَ التنميةِ تتحركُ في كلِّ اتجاه، ولم تعد التنميةُ تعترفُ بمكانٍ دون آخرَ في عهدنا السعوديِّ الزاهر.