ستنتهي الحرب، ويكفُّ المدفع، وتتوقف الدبابات، ويخرس صوت القنابل، ويسكت أزيز الطائرات.
ستعود الخرطوم كما غنَّى لها “سيد خليفة”:
يا الخرطوم يا العندي جمالك جنة رضوان
طول عمري ما شفت مثالك في أي مكان
ستُخرِج الأرض أثقالها التي حُجِبتْ عنَّا طويلا، سينبتُ الزرع، ويتدفق النفط، ويُسبَّكُ الذهب، ويمتلئ الضرع، ويتكاثر النسل، وستشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمنّيًا.
إنْ قُتِلت “شادن” حمامة السلام، فستظهر ألف شادن، وستهدل ألف حمامة تغنِّي للسلام وللوطن وللنماء والازدهار والإعمار:
*الوحش يقتل ثائرا*
*والأرض تُنِبت ألفَ ثائر*
*يا كبرياء الجرح، إنْ مِتنا لحاربت المقابر*
ستعود خلاوي القرآن؛ لتشعل نارها، وتستقبل الحفظة الصغار، وسترتفع أصوات النداء للصلوات في جميع مآذننا.
وستفتح صالات الأفراح أبوابها، وسيغني المغنون، وتزغرد الأمهات الخالات والعمات، وستنتظم البلاد في عرس كبير.
ستحمل الطائرات السيَّاح والزوار والأحباء
سيعُمَّر مطار الخرطوم؛ ليكون أفضل وأجمل وأبهى، ويعود للبلاد – عَبرَه – مَن غادرها إجلاءً عبر غيره.
وسترصف الطرق التي تكسّرت، وتُشَاد المباني التي تهدمت.
وستجلس تلك الأجساد النحيلة على مقاعد الدراسة التي اشتاقت لهم واشتاقوا لها. وستفتح الجامعات أبوابها، وتعانق أصوات أساتذتها آذان طلابها وقلوبهم وعقولهم.
سيفتح استاد الخرطوم أبوابه؛ ليشاهد الجمهور الهلال والمريخ، وهما يتباريان على كأس السلام.
سيفتح المسرح القومي أبوابه، وتنتشي خشبته سعادةً وهي تحت أرجل الممثلين.
وستقام الأمسيات الشعرية؛ لتطرِّز ليالي الخرطوم الشاعرة ، وستغرد “روضة الحاج” كما لم تغرد من قبل، وستعود خرطومها أمًّا رؤومًا ، وسيعود “محمد عبدالباري” لينغِّم تلك الأمسيات، ولن يرتقي –حينها- ذئبُ الجبال المنبرا.
سيعود شارع النيل مزدحما بالمارة، وهواة رياضة المشي، ومحبي التنزه، ويرددون مع “عقد الجلاد”:
*يا جمال النيل*
*والخرطوم بالليل*
ستعاود فضائية السودان بثها، ويردد فيها “العطبراوي” ما جادت به قريحة “محي الدين فارس”:
وغدا ًنعود
حتماً نعود
للقرية الغنَّاء، للكوخ الموشح بالورود
ونسير فوق جماجم الأسياد مرفوعي البنود
تزغرد الجارات
والأطفال ترقص و الصغار
والنخل و الصفصاف
والسيال زاهية الثمار
وسنابل القمح المنور في الحقول و في الديار
وسينطلق الصوت الذي صمت فترة: *هنا أم درمان*، من إذاعتها الشامخة العتيقة الرائدة العريقة.
سينام الأطفال هانئين هادئين، لن يُرَوَّعوا بأزيز الطائرات ولا بأصوات القصف والضرب والدانات والقذائف، ولن يُقلِق منامهم شيء.
و “سيلعب الصبي مع التمساح كرة الماء” كما قال حبيبنا الطيب صالح.
سيخرُج الناسُ إلى الحدائق التي افتقدتهم، وستتعالى ضحكاتهم، وتمتزج بزقزقة عصافير مهاجرة، حطَّت على أفنان باسقات بجوارهم لتستريح قليلا، ثم تنطلق محلقة، مستجيبة لوصية “صلاح أحمد إبراهيم”:
*وكان تِعب منك جناح في السرعة زِيد*
وسيعود مَن خرجوا من منازلهم أو – بالأدق- أُخرِجوا، سيفتحون النوافذ؛ لتدخل عليهم أشعة الشمس، لا يخشون مقذوفا ينفذ منها. وستكتظ البيوت بالزوار المتحابين واصِلِي أرحامهم وأصدقائهم وأحبائهم.
ستعود “الأوتوبيسات” السفرية حاملة الركاب في جميع شوارع البلاد وبين مُدنها؛ وصلًا لما كان انقطع.
سيعانق النيل الأزرق صِنْوه الأبيض؛ فرحًا بعد جفوة، وشوقًا بعد افتراق.
ستمتلئ الشوارع بالباعة المتجولين، وستفتح المحال التجارية أبوابها لتستقبل المشترين، فالأرفف تعجُّ بالبضائع، والأسعارُ يقدر عليها الجميع.
سيخرج العسكر إلى ثكناتهم، ويشيِّدون مقارَّهم وقواتهم خارج المدن، وتظل المدينة مدينة، لا يقطنها إلا المدنيون.
سيتّقد الضوء الذي خبا، وسيصدح الصوت الذي خفت، ستتجسَّد كل الأيدي في يدٍ واحدة، تحمل أدوات البناء، وتقضي على معاول الهدم. وستسافر الظعينة في أرجاء البلاد، لا تخاف إلا الله، فالذئب قد مات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق يسن الطاهر*
Tyaa67@gmsil.com