بقلم: احمد حسين الاعجم
في الماضي كانت ثقافتنا عامة ومتنوعة ومفيدة
فقد كنا نحفظ اسماء شعراء من العصرين الجاهلي والاسلامي
ونحفظ من اشعارهم
ونحفظ اسماء معارك وقادة وابطال
ونحفظ حكم وأمثال
وهذه من خلال المناهج الدراسية
وفي مراحل تالية ومن خلال التلفزيون ثم الصحف
حفظنا اسماء القارات والدول والعواصم
وأسماء رؤساء الدول
وأمناء الأمم المتحدة
فضلا عن اسماء الرياضيين والفنانين لكن بشكل أقل
وكانت معظم نقاشاتنا في المدارس او في جلساتنا الخاصة تدور حول هذه الأمور
ولعل من اشهر العابنا الثقافية في الماضي المساجلة الشعرية التي صنعت ذائقة كثير من جيلنا
هذه الثقافة العامة والمتنوعة افادتنا في التحدّث واساليب الكلام والكتابة والتعبير عن الذات
بل ان كثير من اسئلة القدرات اللفظية في الوقت الحاضر تعتمد على الثقافة اللغوية
وهي ثقافة يفتقدها كثير من الجيل الحالي بكل أسف ،
ومن ذكرياتي الجميلة هنا أنه كان لي جار اكبر مني في السن ( لعله جاري الخامس )!
لكنه ذكي وذهنه متوقد ولديه شغف بالعلم والتعلم ويحفظ بدقة عجيبة وفصيح اللسان ولديه خيال واسع
فضلا عن مرحه الكبير فقد كان صاحب روح جميلة وطرفه حاضرة
كما كان ودودا ولطيفا ومقبولا ومحبوبا من كل من عرفه
وايضا كان انيقا جدا ويحب لبس الزهور العطرية
هذا الرجل هو الجار والصديق الرائع الذي
لا انساه
( عَبْسي ابو دُلُوّة ) رحمه الله
الذي كان يكني نفسه بابي تركي
ورغم انه لم يكن متعلما
حيث درس في المدرسة الليلية قليلا ثم تركها بسبب مشاغل الحياة
الا انه كان يحب الاذاعة كثيرا
بل لا يكاد يفارق الرادو ويحفظ مواعيد نشرات الاخبار والبرامج الثقافية وينسق مشاغله من احضار الماء او العلّفة قبلها او بعدها
حتى أن زوجته كان تقول لي : عمك عبسي هبل
يرقد بالرادي في حِبُه)
ومع ظهور التلفزيون اصبح يشاهده بحرص وخاصة نشرات الاخبار وبرامج المنوعات حيث يلتقط منها معلومات متنوعة
ثم أدمن المصارعة الحرة التي كانت عشقه الكبير
وكان يكرر دائما وبدقة وفصاحة اسماء
المصارعين مثل
( بوب باكلند – ومستر فوجي – وسوبر فلاي جيمي سنوكا )
ويقلد ابراهيم الراشد في تعليقه مثل قوله( مستر فوجي هذا مخادع انه يقوم بنثر الملح في عيون خصومه ليتمكن من الحاق الهزيمة بهم )
كما كان يتحدث بفصاحة
ويستخدم كلمات مثل : طبعا – وربما -وياعزيزي
وهي كلمات لم يكن يقولها اقرانه من كبار السن
وكان يمتلك معلومات كثيرة جدا عن كل شيء
يحفظ الكثير من اسماء الدول والعواصم واسماء الرؤساء الصعبة
وخاصة في قارة افريقيا
واسماء العملات
والمحاصيل واسماء السيارات
ونشأت بيننا علاقة وقرب ونقاشات وانا في بداية المرحلة المتوسطة
حيث كنت ألقاه عند صديقه ابن عمي
فيقوم بطرح اسئلة عليّ
بحكم انني ادرس
ثم عندما نلتقي على البئر او في الطريق
الى ومن المسجد
واذكر سؤاله الاول لي في بيت ابن عمي وهو : ماهو تدرسون في المدرسة ؟
فقلت : ندرس عن الهند
وكانت الهند راسخة في ذهني لأن خريطتها جاءت كسؤال في الاختبار النهائي لمادة الجغرافيا في الصف السادس
فقال لي فورا : الهييييند
طيب ماهي عاصمة الهند
فقلت : نيودلهي
فصفق تصفيقة قوية وقصيرة وقال : ياسلااااام عليك .. شاطر ولك علامة !
واصبحت هذه لزمة دائمة في نقاشاتنا
فإن أجبت جعلها لي
وان لم أجب
يجيب هو ويصفق تصفيقته المعتادة ويقول :
ياسلااااام عليّه .. شاطر وليّه علامة !
وبقيت هذه اللزمة بيننا حتى بعد أن اصبحتُ معلما
ولازالت خالدة في نفسي حتى اليوم
وهكذا اصبحت معظم لقاءاتنا مناقشات عامة
وكانت تقوم بيني وبينه تحديات
اخسر معظمها لكني تعلمت منه الكثير
فهو أول من عرفني باسم
الرئيس الفرنسي منذ عام ١٩٧٥ فاليري جيسكار ديستان بل انني تعبت جدا في حفظ اسمه
وكان كل ما التقينا يسألني عنه ليضحك عليّ
فصممت حتى حفظته
وعرفني كذلك على
روبرت موجابي رئيس زيمبابوي منذ عام ١٩٨٠
واول من عرفني بالجنيه الاسترليني والفرنك الالماني
وقصر الاليزيه والبيت الابيض والكرملين
والمانيا الغربية والشرقية
وكوريا الجنوبية والشمالية
وكثير كثير من المعلومات عرفتها منه
بل فتّح عقلي للاستزادة من تلك المعلومات
ومن ذكرياتي عنه انه كان يقلد بصوته صوت ماطور ضخ المياه عند البئر
يقلده بدقة عجيبة
من بداية تشغيله بحيث يكون الصوت خفيفا
ثم يصبح الصوت قويا
ومستمرا
ويقلد صوته عندما ينطفئ
وهو يهدأ شيئا فشيئا حتى يتوقف
كان تقليده عجيبا ودقيقا
رغم اننا حينها كنا نضحك من التقليد ونستمتع به
لكن بعدها عرفنا ان التقليد دليل خيال وموهبة
لقد كان عبسي مجموعة مواهب لكنه جاء في غير زمنه رحمه الله
واستمرت علاقتنا طوال دراستي المتوسطة والثانوية وحتى تخرجت من الجامعة لم تنقطع الا بسفره الى جده وعمله فيها
ومع ظهور الصحف ومتابعتي لها
اصبحت نقاشاتنا اكثر فائدة لي وله
وكانت نقاشاتي معه تفيدني مع زملائي في المدرسة واصدقائي في الحارة
فكنت اتحداهم بفاليري جيسكار ديستان وروبرت موجابي والجنيه الاسترليني والفرنك الالماني والكرملين وغيرها !
وكان الرجل في البداية يعمل هو ومجموعة من اهل القرية ( منهم صديقه ابن عمي )
في شركة بن لادن ثم شركة لنزي الايطالية في انشاء الطريق الدولي والكباري
ثم بعد توقف اعمال الشركات سافر الى جدة حيث عمل في احد المستشفيات كحارس
حيث كان يغيب ويعود
وحدثني كثيرا عن مرحلة جدة وكيف اصبح صديقا للجميع حيث نشأت بينه وبينهم نقاشات جميلة في نفس اهتماماته
ادت لعلاقات جميلة وقوية
حيث اخبرني ان من اجمل الاشياء التي كانت تسعد زملاؤه وتبسطهم تكرار لزمته المشهورة في نقاشاته معهم حتى انهم اصبحوا يقلدونها !
كما اكتسب من المستشفى بعض الكلمات الانجليزية التي اصبح يستخدمها بدقة وفي أماكنها الصحيحة مثل
نو
يس
ثانكيو
ماي فريند
باي
قد مورننق
وغيرها
حفظها بشغفه بالتعلم وسرعة بديهته
وبقيت علاقتنا راسخة حتى قرر فجأة
مغادرة قريتنا
وعاد الى قريته الاصل الحسينية تقريبا عام ١٤٢٠
او قبلها بقليل
ومن العجيب ان صديقي الطيب عبسي
كان يكني نفسه بأبي تركي رغم أنه لم يرزق بابناء من زوجته الاولى التي تزوجها من قريتنا وعاش معها سنوات طويلة تقارب الثلاثين عاما
وبعد ان انتقل الى قرية الحسينية في اواخر عمره
بقيت أسأل عنه فقيل لي :
أنه تزوج هناك وانجب ولدا اسماه تركي
وتوفي رحمه الله وابنه لازال طفلا
رحمه الله وجزاه عني خير الجزاء
فقد كان رفيق رحلة جميلة
لازالت تفاصيلها حاضرة في القلب والعقل ،
وختاما ..
لقد كانت ثقافتنا ثقافة عامة ومتنوعة ومفيدة فعلا
عكس ثقافة اليوم التي اصبحت تتمثل في معرفة واجادة الالعاب الالكترونية
ومتابعة المشاهير في مختلف المجالات
وهي أمور في الغالب
لا تثري العقل
ولا اللسان
ولا تصنع متحدثا
او كاتبا
وسلبياتها أكثر من ايجابياتها ،
لكنه حكم التطوّر
وقوانين صيرورة الحياة .