بقلم ✍🏻 الزاهد النعمي
على مرِ التاريخِ ، اتخذتْ معظمَ الحضاراتِ رقصاتٍ خاصةً بها وانتقلتْ هذهِ الرقصاتِ منْ جيلٍ إلى جيلٍ وألفتْ الشعوبَ أغانيَ راقصةً ، ونشأتْ أغلبُ الرقصاتِ الشعبيةِ شكلاً منْ أشكالِ الاحتفالِ والتعبيرِ عنْ الفرحةِ والبهجةِ في المناسباتِ الخاصةِ والعامةِ أوْ الشعائرِ الدينيةِ أوْ الانتصارِ في الحروبِ والصراعاتِ ، والتحالفاتُ القبليةُ ، والإنجازاتُ الفرديةُ ، والجماعيةَ .
كذلكَ الفنونَ الشعبيةَ في المملكةِ ومنها فنونُ منطقةِ جازانْ بكافةِ ألوانها التي ارتبطتْ بالمناسباتِ الاجتماعيةِ وما درجَ عليها أبنائها في الزواجِ واستقبالِ الضيوفِ مرورا ببعضِ العاداتِ والتقاليدِ التي تستوجبُ الاحتفاءَ بها بمصاحبةِ هذهِ الألوانِ ورغمَ مضيِ السنينَ وتغيرِ أنماطِ الحياةِ على نحوٍ كبيرٍ وما فرضتهُ بعضُ الأفكارِ المتشددةِ لمْ يطلْ اندثارُ تلكَ الفنونِ لما تحظى بهِ منْ اهتمامٍ ومحافظةٍ ، فلا تكادُ تخلو مناسبةً في المنطقةِ منْ رقصةٍ منْ الرقصاتِ الشعبيةِ الملائمةِ مما منحها الاستمراريةَ إلى اليومَ .
ففي الهودِ ( الختانُ ) والزواجُ برزتْ رقصةَ السيفِ والعزاوي والعرضة والزيفة والمعشىْ فيما برزَ الدلعْ والزاملْ في الحربِ وقدومِ القبائلِ والترحيبِ بهمْ فتميزَ بها الرجالُ بها عنْ النساءِ الآتي اخترنَ الغنجي والجحلي وبرعنَ فيها وربما تشاركُ الجنسينِ صفوفَ الزيفة والمعشي ويصاحب الأخيرتينِ الشعر والغناءِ كما في الدمة والزاملْ ولأداءِ هذهِ الرقصاتِ بإتقانٍ وجودةٍ وبما يضمنُ قوةَ التعبيرِ وتحقيقِ أعلى مستوى منْ الأداءِ لابد منْ توافرِ المكوناتِ الرئيسيةِ وانسجامها في ضوءِ طبيعةِ المناسبةِ ونوعيةِ الحدثِ ووقتِ الاحتفالِ والتي يمكنُ حصرها في فرقةِ العزفِ وأدواتهمْ منْ زلافْ وأزيارً ومزمار وفي اللاعبينَ المؤدينَ رقاصة وشعراءُ ومغنينَ والجمهورِ بطبيعةِ الحالِ .
أواخرَ التسعينياتِ الهجريةِ وحتى الربع الأولِ منْ القرنِ الحاليِ خفتَ صوتُ الزيرْ كثيرا في المنطقةِ حتى كادتْ مناسباتُ الزواجِ على كثرتها تخلو منْ عرضةٍ عصريةٍ أوْ عزاوي مسائيةً إلا فيما ندرَ وعلى استحياءٍ وذلكَ لأسبابٍ كثيرةٍ أهمها الاستقرارُ المجتمعيُ والتهادنُ القبليُ والأمنُ والرخاءُ الذي شهدتها المنطقةُ معَ العهدِ السعوديِ الزاهرِ كذلكَ اختفاءً الاهوادْ فختانَ المولودِ يتمُ في المستشفى مبكرا وأيضا تفريغُ القرى في تلكَ الفترةِ منْ سكانها بالهجرةِ إلى المدنِ الرئيسيةِ في المملكةِ بحثا عنْ الوظائفِ ثمَ تأثيرِ ما يعرفُ ب ” الصحوةَ ” وما فرضتهُ منْ أجواءِ وتحفظاتِ اجتماعيةٍ إزاءَ كثيرٍ منْ العاداتِ والتقاليدِ المورثةِ ومنها الرقصُ الشعبيُ ومظاهرُ الفرحِ المعتادةِ حتى إنَ محاضراتِ الوعظِ والإرشادِ حلتْ محلَ الرقصِ وأهازيجِ الأفراحِ والليالي الملاحْ في مناسباتِ الزواجِ فتخالَ أنكَ في عزاءٍ لا زواجَ وفرحَ ومعَ تراجعِ ” الصحوةِ ” واعتدالِ الخطابِ الدينيِ خلالَ العقودِ الثلاثةِ الأخيرةِ وريدا رويدا بدأتْ مظاهرَ الفرحِ والاحتفالِ الأولى تعودُ وبدأَ صوتُ الزيرْ يقرع منْ جديدٍ معلنا عنْ عودةٍ قويةٍ للرقصِ الشعبيِ وبوتيرةٍ متسارعةٍ ونموِ مضطردْ معَ تغيرٍ ملحوظٍ في أنماطِ الأداءِ واللباسِ وإدخالِ الآلاتِ الموسيقيةِ الحديثةِ خاصةً معَ ظهورِ الفرقةِ الشعبيةِ المتخصصةِ وتحولَ الرقصُ منْ الهوايةِ إلى الاحترافِ ومعهُ بدأتْ حالةً منْ التنافسِ المحمومِ فكلَ فرقةٍ تسعى لتحقيقِ أكبرِ قدرِ منْ التميزِ والاستحواذِ على السوقِ وبالتالي مكاسبُ ماديةٌ أكثرَ لذا عمدَ قادتها إلى إدخالِ تعديلاتِ وتغييراتِ بهدفِ التطويرِ ومسايرةِ العصرِ ومواكبةِ الجيلِ وكسبِ السوقِ ورضا العميلِ فبعضهمْ وفقَ في ابتكارُ أنماطٍ تتناسبُ معَ المتغيراتِ كأماكنِ العرضِ منْ مسارحَ ومنصاتِ وساحاتِ الاحتفالاتِ المهيئةِ وكذلكَ الأدواتُ الحديثةُ منْ صوتياتٍ وإضاءةِ وآلاتِ تسجيلٍ وتصويرٍ ونجحَ الأغلبيةَ في تصميمِ أزياءٍ جيدةٍ جمعتْ بينَ الحداثةِ والأصالةِ في المقابلِ فشلَ آخرونَ فأنتجوا أنماطا مشوهةً لا طعمَ لها ولا نكهةً وهيَ عنْ الأصالةِ والمورثِ ابعدْ .
للأنصاف فظهور الفرق الشعبية المتخصصة مثل قفزة قوية ونقلة نوعية ساهمت في الحفاظ على ألوان لرقص الشعبي بالمنطقة بعد التراجع الذي شهدته قبل عدة عقود ووفرت دخلا جيدا لعناصرها من الجنسين وإبرزت الموهوبين منهم سواء في مجال الرقص او العزف او الغناء وكتابة الشعر الشعبي وحتى والمصممين وسهلت على أصحاب المناسبات الحصول على عروض تناسب الحدث ومختلف الاذواق وبشكل أكثر تنظيما وجودة إضافة الى اسهامها في نشر هذا النوع من المورث الشعبي الجازاني والتعريف به محليا ودوليا.
في المقابلِ ونتيجةَ للمحاولاتِ التطويريةِ الفاشلةِ ظهرتْ أنماطٌ لا تمتُ للرقصِ الشعبيِ الجازاني الأصيلَ بصلةٍ ولا تعكسُ التاريخَ العريقَ للمنطقةِ ولا المستوى الاجتماعيُ والثقافيُ والعلميُ والأدبيُ والأخلاقيُ لأبنائها وما عرفَ عنهمْ منْ أصالةٍ وصلابةٍ ورجولةٍ وتمسكٍ بالقيمِ والعاداتِ والأعرافِ القويمةِ التي طالما اعتزوا بها وتفاخروا منذُ سابقٍ الأزلِ وتوارثوها جيلاً بعدَ جيلٍ.
ومنْ يتأملُ تسمياتِ الآباءِ والأجدادِ لرقصاتهمْ يدرك حقيقةَ هذا الأمرِ ف ( السيفُ ) رمز للقوةِ والإقدامِ والشجاعةِ و ( العزاوي ) منْ العزوةِ والاعتزازِ والنخوةِ والفزعةِ والبرعْ منْ البراعةِ والإتقانِ والعرضةِ منْ الاستعراضِ والتحدي والدمة منْ خفةِ الحركةِ وسرعتها ودكِ الأرضِ تحتَ الأقدامِ بينما حملَ الزاملْ والزيفة والمعشي معانيَ الجودِ والكرمِ والتسامحِ وطيبٍ المعشرْ وسموٍ الذائقةِ وإبداعِ الشاعرِ كذلكَ منْ يدققُ في سماتِ حركاتِ الرقصِ الجازاني وتنوعها وحتى ألحانها لا شك تتأكدُ لها جميعِ الدلالاتِ السابقةِ ، وأكثرُ سموا ، وسموقا.
التهامي المخلافيّ القديمِ الذي حرثِ الأرضِ وحولَ صحاريها إلى جناتْ ومروجٍ ومنْ ونحت جبالها حصونا وقلاعا وبروجا لنْ يقبل بشابٍ يتعزوا أمامهُ فيتثنى تثني النساءُ لا شك سيثورُ غضبا ويشتاطُ غيضا ولنْ يهديَ منْ روعهِ إنْ حاولَنا اقناعهْ بانَ حفيدهُ خلطَ بينَ الغنجي والعزاوي دونَ قصدُ لنْ يقبلَ وأنَ توسطنا بالقناعي وعلى ابوطيرة والهزازي!
منْ يقنعُ سادةُ الفكرِ والشعرِ والأدبِ بأنَ منْ كتبِ أغنيةٍ ( ما هوَ تشابهُ والحلا قدْ لطيِ بهِ ) شاعرٌ جازاني مبتدئٌ لنْ يقبلوا منا ولنْ يبقوا في حفلنا دقيقةً ولوْ جئنا بابنِ هتيملْ الضمدي والقاسمُ بنْ علي والجراحُ بنْ شاجرِ والعارجي واحمدْ عطيفْ شفعاء !
لمْ يقفْ الأمرُ عندَ هذا الحدِ ، بلْ تعدى إلى أنَ بعضَ الفرقِ استعانتْ براقصينَ وزلافينْ منْ العمالةِ الوافدةِ أما لتغطيةِ العجزِ في صفوفهمْ الفرقةِ او لخفضْ النفقةُ ودفعُ رواتبِ أقلَ فقدموا عروضا هيَ أقربُ إلى اللونِ الحديديِ منها إلى الجازاني والأدهى منهُ أنَ بعضَ العناصرِ ترقصُ رقصَ قبائلَ الزولو الإفريقيةِ معَ احترامنا وتقديرنا لكلِ الشعوبِ الشقيقةِ والصديقةِ فلنا طابعنا ولهمْ طابعهمْ وهناكَ فرقٌ شاسعٍ يدركهُ طفلُ الحندولْ فما بالكمْ وما الذي حلَ بكمْ وأنتمْ المحترفونَ ؟ ! أيُ عذرِ لكمْ أمامَ ما قدمهُ علي بنْ مصبحْ والبيضي لتراثنا وفنوننا ؟
أبدا أبدا لنْ يقبلَ منكمْ أحد لا وجهاءَ المنطقةِ وأعيانها ولا المسؤولونَ فيها أبدا لنْ يقبلوا بهذا العبثِ والهزلِ الحاصلِ والتشويهِ الواضحِ لتراثنا ومورثنا وانْ تطرحنا عليهمْ بألفِ لحافٍ وسقنا إليهمْ ألفُ بعيرٍ .
بقلم / الزاهد النعمي