مقالات مجد الوطن

أوتار الصحون

 

محمد الرياني

 

هأنذا أتقادمُ كما الأشياء تهرم ، لم أعد أسمع جيدًا صوتَ الصحونِ المعلقةِ في صدرِ بيتنا القديم ؛ بيتُنا القديمُ لم يعد له وجودٌ أصلًا ، كنا نرقصُ ببراءةٍ على حركةِ الصحونِ والهواءُ يعزفُ على أوتارها شجنَ الحزنِ تارةً وتارةً أوتارَ الفرح ، مضتْ أعوامٌ كبرُ فيها كلُّ شيءٍ حتى ذبلَ ويبسَ واختلطَ بالتراب ، لا أنسى ذلك العصفورَ الأصفرَ الصغيرَ الذي ظللتُ أراقبُه وهو يبني عشَّه في جذعِ شجرةِ الأثلِ التي زرعناها قُربَ بيتنا المخروطي الأنيق ، عجبتُ لهذا المخلوقِ الوديعِ وهو يحملُ في منقارِه أوراقًا صغيرةً وحشائشَ يابسةً إذا لم يجد خضراءَ ليبني بيتَه البديع ، كبرَ العصفورُ واختفى ، حتى شجرة الأثل التي حملتِ العصفورَ لا نعرف أيَّ حطَّابٍ حملها لتُلقى حطبًا في تنانيرِ القريةِ الوادعة ، اكتشفنا أن العصافيرَ عندما تكبرُ مثلنا تختفي وتتركُ بيضَها للظروفِ كي تعيشَ بداخلها عصافيرُ جديدة ، قدمايَ اللتان تتحركان بخفةٍ مع حركةِ الصحونِ لم تعد تتبادلُ مع الصحونِ لحظةَ المتعةِ والفرح ، ما أقسى درجاتِ العمرِ عندما ترتقي نحو الدرجةِ البائسة ، تنهزمُ نشوةُ الفرحِ المحبوسةِ وسط الأضلعِ العتيقة ، لايسمح لهذه النشوةِ المكبوتةِ أن تعودَ ولو للحظةٍ لزمن الصغرِ كي تسمعَ إيقاعَ الصحونِ وشدوَها الحزين .

كانت لنا في الصغرِ عُشَّةٌ جميلةٌ في وسطها كلُّ شيءٍ يرقص ‘يفرح ‘يتألم بروعة ‘ صغارٌ وكبارٌ في مكانٍ واحدٍ تتوزعُ علينا النسائمُ في المواسم ، هأنذا أكبرُ ومعي غيري ولم يبقَ من أوتارِ صحونِ الأمسِ إلا بقايا هزيلة لا تستطيع العزفَ أو الاستجابةَ لنداءِ الهواءِ القادمِ كعادته .

عدتُ للأطلالِ أبحثُ عن عصفورٍ أو بقايا أعشاش لعصافير ، أحسستُ وسط الحيرةِ بملمسٍ ناعمٍ يمشي على قدمي ، نظرتُ بعينين عليهما غشاوة ، جاء طائرٌ أصفر صغير يلعب على قدمي ، دمعتْ عيني ، لم يهرب وظلَّ متشبثًا بي وكأنه يريد لحنًا يذكِّرُه بعُشِّه المعلقِ في جذعِ الشجرة ، نظرتُ حولي وغادرتُ الأطلالَ والعصفورُ معي ، نسير نحو شجرةٍ عتيقةٍ أو ظلٍّ كي نجلسَ تحته ، لم تكن بيننا لغةٌ واحدة ، كانت بيننا مشاعرُ تجمع لحنَ الصحونِ المعلقةِ والبيضِ الصغيرِ المختبئ في بطنِ العشِّ العجيب .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى