مقالات مجد الوطن

(الأنا) في شعر طارق ياسين  نص “اشتعال قافية” أنموذجًا

 

بقلم: عماد الدين قرشي محمد حسن

Emad1929@gmail.com

لعلَّ حضور (الأنا) في الشعر العربي يشكل ظاهرة تستدعي الاهتمام، فلا نكاد نقرأ قصيدة في شعرنا العربي القديم والحديث إلا ونلمس الصِّراع الثنائي بين (الأنا) و(الأنا العليا) والهو(الآخر)، سواء كان هذا الصِّراع خفيًا أو جليًا ، فمن الشعراء من جعل قصائده أشبه بالسيرة الذاتية متجاوزًا ما أقرته القصيدة الحديثة بالابتعاد عن الذاتية ، وهذا يختلف مع مبدأ القصيدة الغنائية التي تعبِّر أصلًا عن الشَّاعر المفرد لترسم ملامح شخصيته في شعره ، وتلك جدلية يحتدم النِّقاش فيها ويتسع طرفاها؛ لا يتسع المجال هنا بإثارتها والخوض فيها ؛ لضيق مساحة النَّشر وطبيعة الدراسة.

ستحاول هذه القراءة الوقوف على ملمح حضور( الأنا) في شعر الأستاذ طارق ياسين ، والكشف عن طبيعة الصِّراع المضمر بين (الأنا) و(الآخر) من خلال نص (اشتعال قافية) أنموذجًا ، وقد اتخذتْ هذه القراءة المنهج الوصفي في وصف القيم السلوكية والفكرية في النَّص ، والمنهج التَّحليلي في قراءة النَّص والتَّعمق في دلالته الموضوعية وأبعاده الفنية والبلاغية ، والمنهج النَّفسي الدَّلالي الذي يربط بين العمل الأدبي وصاحبه ، ولعل المقصود بـ(الأنا) هو إدراك الشَّخص لذاته أو هويّته، أو هي الذات الشَّاعرة ، وصوتها الفردي وعواطفها وأفكارها، و(الآخر) هو كل ما يحيط بـ(الأنا) من العالم الخارجي والداخلي ، تشمل الأشخاص والأماكن والأحداث والأفكار وغيرها ، ويجب أن تكون (الأنا) في أكثر حالاتها اعتدالاً بين (الهو) و (الأنا العليا) ، ويمثل الأنا العليا الضمير الذي يتجه للكمال، و المثالي وليس الواقعي، فإذا استطاعت (الأنا) أن توازن بين( الهو) و (الأنا العليا) والواقع ، عاش الفرد متوافقاً، ولن تقف هذه القراءة على المعاني النَّفسية والفلسفية لـ(الأنا) ؛ حتَّى لا يتسع مجال القراءة .

ولعل أول ما يلفت انتباه المتلقي العنوان فهو يثير كوامن المتلقي، ويفتح ذاكرته ، ويفجِّر ما كان ساكنًا في وعيه، فهو نفسه ينطوي على بعدٍ للـ(أنا) فقد جاء العنوان في هذا النَّص على المستوى النَّحوي مركبًا تركيبًا إضافيًا (اشتعال) مضاف، و(قافية) مضاف إليه، فـ(اشتعال) خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هو) أو (هذا) وحُذف الضمير أو اسم الإشارة المعرفة جوازًا وبقي (اشتعال) خبرًا متصدرًا للكلام؛ لأنَّه المقصود فهو صفة الشَّاعر وهو مضاف ، وجاءت كلمة ( قافية) مضافًا إليه ؛ ليقيد دلالة الاشتعال بقافية ، ويخرجها من مطلق التنكير إلى جمالية التَّخصيص ، وعلى المستوى الدَّلالي يدل على الآخر المختفي وراء المجهول ، فما وراء (قافية) لا يعرفه أحد ، وعلى المستوى البلاغي التَّعبير بالجملة الاسمية يفيد ثبوت المعنى وصفة الشيء ، فالشَّاعر يريد أن يثبت صفة الاشتعال للقافية ؛ لأنَّه يبحث عن صفاء يستعيد به حياته العشقية التي تكدرت منذ زمنٍ يشير لها في النَّص بـ” وأعيد بوحًا قد تعاهده البلى ” ، وقد عبَّر الشَّاعر من خلال العنوان عن الآخر ، وهنا ينهض السؤال: مَنْ الآخر الذي يريده الشَّاعر؟ فمن هنا تبدأ الحكاية ، فالاشتعال يمثل في العنوان رمزًا قويًا ؛ فهو يشير إلى عملية تحويل الفكرة إلى عمل فنيّ متكامل ويختزل أسرارًا عن مضمون هذا المنجز الأدبي.

والمتأمل في شعر الأستاذ طارق ياسين يلحظ بروز (الأنا) في حضور مكثف وواضح في فضائه الشعري بشكل عام ، ففي نص (عودة السَّوسنة) تبرز الأنا بشكلٍ واضحٍ :

” سأعيد سوسنة القصيد لحقلها وأصيح بالحرف المغادر: هيت لك

وأصـــــوغ دوزنــــة الكــــــلام لعــلها تـــروي ظماء البـــوح فيــــك ليسكنَك

وأردُّ هسهـــسة الحديـــــث لظـــلها حــتَّى تـــفئ عــــليه كيــــلا يهجــــرك ”

فنجد(الأنا) تجلَّت في الأفعال: “سأعيد ، وأصيح ، وأصوغ ، وأردُّ “. لكنها في نص(انعتاق) تبدو حزينة:

” لكنني، وأنا المغبونُ في خَلَدي أكتِّم الآه والأحوال طوع يدي ”

فـ(الأنا) الشَّاعرة في البيت السَّابق تشعر بالظلم والقهر وكأنَّها محكوم عليها بحياة بائسة، لكنها تكبت مشاعرها رغم ما حاق بها. وهكذا يكثر حضور الأنا بشكل مكثف في معظم قصائده.

أمَّا في نص (اشتعال قافية) فيتجلى ذلك الحضور في صور عديدة: فنجده تارة في ضمير المتكلم المتصل(تاء المتكلم):(غربلتُ ، نسجتُ ، غدوتُ ، بززتُ ، تركتُ ، غرستُ ، خلَّفتُ ، محوتُ) ثماني مرات صريحة ، فضلًا عن وجود الضمائر الأخرى التي تحيل إلى المتكلم كالياء في ( مثلي ، قافيتي ، غيري) ثلاث مرات ، وضمير المتكلم المستتر وراء الفعل المضارع المهموز:( أصعدُ ، أعيدُ ، أفجِّرُ ، أطوعُ ، أرمي ، أصوغ) ست مرات .

يصف الشاعر في هذا النَّص رحلة صعوده من عالم الأحلام إلى عالم الإبداع ، وأثناء هذه الرحلة مرَّ بتحدياتٍ كثيرة ، ولكنه بقدرته على ترويض اللُّغة وتشكيلها أستطاع أن يتغلب عليها، فتكشف (الأنا) الشاعرة في مطلع القصيدة عن صراع داخلي محموم عبَّرت عنه الأبيات في موضعين: الموضع الأول نجده في قوله: ” في مُنخُلِ الأفكار غربلتُ الرؤى” فـ(الأنا) الشَّاعرة هنا ترمز إلى عملية التَّصفية والانتقاء، فاستخدم صورة بلاغية بديعة تشف عن هذا الصِّراع ، وهي الاستعارة المكنية فهو يقارن بين (الأفكار) بالدَّقيق في كثرتها ، والعقل بـ(المنخل) الذي يستخدم في الفصل بين الأفكار الصحيحة والخطأ، وهنا يعلو عند الشَّاعر صوت الأنا ويبالغ في وصفها فهي قادرة على التَّفحيص والتَّمحيص ويتجلى ذلك في استخدام الفعل (غربلتُ) التي توحي بأنَّ الشَّاعر قام بفحص أفكاره وأحلامه بعناية، وهذا لا يأتي إلا من منطق القوة والثِّقة بالنَّفس، (فأناه) تُقلِّبُ الفكرةَ من الوجوهِ كُلِّها في تروٍ وإمعان ، فتنقحها وتعتني بها ثم تحيلها إلى حرفٍ زاهٍ يشمخ بالمعاني لتصعد بها فوق الثريا ” الآن أصعد فوق أحلام السرى ” ، ولعل هذه العبارة تكتنز دلالاتٍ عميقة ، فــ(الآن) توحي بأنَّ الأنا الشَّاعرة قد تخطت مراحل سابقة من حياتها ووصلت إلى مرحلة جديدة من الإنجاز، و(أحلام السُّرى) تعني الأحلام الخفية التي يطمح إليها كل إنسان، والعبارة ترمز إلى الأماني الكبيرة ، ويمكن تفسيرها بأنَّ (الأنا) الشَّاعرة يتملكها شعور بالانتصار والزهو لتحقيقها ما كانت تصبو إليه .

أمَّا الموضع الثاني يختبئ وراء قوله: “وأعيد بوحا قد تعاهده البلى” فالعبارة تنطوي على أنَّ ثَمَّة بوح قديم قد نال من (الأنا) الشَّاعرة فاستعادت نبضه وبريقه الذي كان يزين صفاءها الذي تكدَّر منذ زمنٍ كانت قد ذهبت نقاوتهِ وتصرمت علائقه، ولكن ما هذا البوح الذي تضمره الأنا الشَّاعرة؟ ربَّما افتقار عشقي قديم، أو نار فراق كانت تتأجج في قلبه فأطفأ لهيبها، وقد يكون البوح أحد وسائل التَّخلص من تلك الطَّاقة النَّفسية المكبوتة في (الأنا) العميقة، وفي هذا الشطر يوظف الشَّاعر الخلفية المعرفية في تشكيل نصَّه باستخدام التناص “وأعيد بوحا قد تعاهده البلى” مع قول جرير:

قالَت بَليتَ فَما نَراكَ كَعَهدِنا لَيتَ العُهودَ تَجَدَّدَت بَعدَ البِلى

فهل استعادت (الأنا) عهدها أم باتت تتمنى؟

” وأفجِّر الشعر الرصين جداولا وأطوِّع الحرف العصيَّ، وإن سلا

أرمي بقافية ترتِّب ما جــــــرى ينبوعَ ضــــوء في المنابع سلسلا ”

وهنا تذهب (الأنا) إلى تحصيل أدوات وظيفية مؤثرة فتبدو واثقة تمامًا بما تتملكه من قدرات تتمثل في الملكة الشعرية، فتشمخ بحالة من التَّعاظم ، ولعل في استخدام الفعل المضارع ( أفجِّر ، أطوِّع ، أرمي ) ودلالة صيغته يدل على استمرار تفجير الشعر وتطويعه وتكراره وديمومته . ثم يعبر الشاعر عن فرحته بقدوم فكرة جديدة ويصفها بأنَّها مثل زهرة الزنبق :

” من زنبقِ الأمطار جاءتْ فكرتي تهب الحياةَ محاسناً بل موئلا ”

ففي هذا البيت يرسم الشاعر لوحة شعرية بديعة حيث استخدم الرمزية بشكل واسع فرمز إلى الفكرة بــ( زنبق الأمطار) تلك الزهرة التي يرمز بها للجمال والخصوبة فهي تنبت بعد نزول المطر ، وإلى الحياة بــ(تهب) ، وإلى مكان الفكرة بـ(موئلا)، وهذه الفكرة أعطت البيت عمقًا معنويًا وفتحت فيه التأويل ، ثم استخدم في ذات الصورة التَّشخيص حيث نجده أعطى (الحياة والفكرة) صفات إنسانية ، فجعل الحياة تنبض بالحركة والنشاط .

“ما عاد يشغلني الكثير من الألى إن شطَّ قولًا أو تسامح أو قلى”

تبدو (الأنا) الشَّاعرة هنا في حالة توازن نفسي تظهر في تخطيها للمشاعر السلبية ، فهي في حالة من الهدوء النَّفسي والرِّضا الذاتي ، فالشاعر في هذا البيت يوضح الأشكال المختلفة للأذى التي يتجاهلها سواء كانت إساءة لفظية (شطَّ قولًا) ، أو إهمال وتجاهل(تسامح) ، أو إساءة فعلية (قلى)، والتعداد للشمول، لكن (الأنا) الشَّاعرة تبدو هادئة دون معاناة غير عابئة بكل ما يُثار حولها رغم أنَّ داخلها يحتدم بالأفكار المتصارعة ، فهذا التَّضاد وتلك الثنائية تفصح عن حال (الأنا) وتكشف عن حجم المعاناة وهذا الوجع ، وفي البيت توظيف جميل للتناص مع الآية: ( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى )( ) وقد أفاد منه الشَّاعر في تعزيز السياق الإيقاعي للبيت في روعة التَّصريع ، لكن الشَّاعر رغم كل أشكال الأذى التي لحقته استطاع أن يحقق أهدافه فغدا مرفوعًا يشعر بالرِّضا :

” فغدوت مرفوعا لأعــــــلى موقع وهجرت “مِن ” وسلوت “عن” وكذا “على”

يا أيها الغادون في هـــــذي الـدنا هيـــهــــات مثــــلي أن يضــــــل ويعـــجــــلا

فبـــــززت كــــــــل منافس متعملــق وتركـــت غيــــري في الأباطـــح مهــمـــلا ”

هنا تبدو الأنا في حالة من التَّعاظم ، وهالة من الثبات واليقين ؛ فهي قد تركت وراءها كل ما كان يعيق تقدمها أو يبعدها عن تحقيق الهدف سواء كان ذلك أشخاصًا، أو عادات ، أو أفكار سلبية، فتبدو (الأنا) الشاعرة متفائلة يحدوها الأمل، ويتميز هذا المقطع بجماليات اللُّغة والتَّصوير وروعة الإيقاع ففي قوله: ” هيهات مثلي أن يضل ويعجلا ” استعارة مكنية حيث يشبه الشَّاعر نفسه بشيء لا يضيع ولا يعجل، و(هيهات) توحي بالنفي القاطع ؛ فينفي الشَّاعر عن (أناه) أن تضل الطريق أو ترتكب الخطأ أو تتسرع ، فـــ(الأنا) الشاعرة هنا منارة شامخة وسط هذا الزحام والركام ، وفي قوله:” فبـــــززت كــــــــل منافس متعملــق ” تصف الأنا نفسها بقوتها وقدرتها لوحدها على هزيمة منافسيها.

وبوجهٍ عام إنَّ (الأنا) تحمل دلالات مختلفة يتحدد معناها وفق السِّياق الذي ترد فيه ، لكن الغالب في علاقة (الأنا) بــ(الآخر) في نص “اشتعال قافية” هو علاقة التَّضاد والنَّفي السلبي؛ فالـ(أنا) الشَّاعرة تظهر في حالة النَّقيض للآخر وتتخذ في علاقتها به أشكالًا صراعية جادةً ومختلفة، فهي تذهب إلى تحصيل أدواتٍ وظيفية تضفي عليها فعل البطولة وتؤكد قوتها وفرديتها الفاعلة في مواجهة الآخر ، ولعل هذا التكوين يمثل دافعًا يهدهد الشَّاعر منذ الطفولة ، ويشير إلى هذا قوله في (خيبات النأي):

” أنا طفلٌ بجوف الغيب يحبو وأجعل مهجتي للأفْق تصبو”

في هذا البيت يكشف الشاعر عن القوة الدافعة له للتطلع إلى آفاق جديدة، فمنذ طفولته كان يحمل في داخله شغفًا بالمعرفة والإبداع، فربما دفعه ذلك للتغني بالذات ومدح نفسه وتمجيدها، أو التَّعاظم بـ(الأنا) الشاعرة وتحدي الآخر. وأحيانًا تبدو (الأنا) بقدر من الثبات والقوة في أثناء تلك الصراعات فتتفاعل مع (الآخر) إيجابيًا، وهنا نستطيع أن نقرَّ بأنَّ العلاقة بين (الأنا) و(الآخر) علاقة أساسية كلاهما يؤثر في الآخر ، وهذا التأثير المتبادل يشكل تجربة الشَّاعر الإبداعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى