مقالات مجد الوطن

*محاولة لاقتناص الجمال* قراءة تأملية في قصيدة *”سحابة عاشقة* ” للشاعر البروف *أحمد الهلالي*

ثمة نصوص لا تملك -حين تقرؤها- إلا أن تذوب فيها عشقا، وتنسجم معها حبا، ولا ترغب أن تبارحها، فهي نصوص مكتنزة بكل جميل، تنداح الدهشة في كل زواياها، وتنساب الروعة في جميع حناياها.

 

ومن تلك النصوص نص “سحابة عاشقة” للشاعر البروف أحمد الهلالي ، الفائز بجائزة القوافي الذهبية في مهرجان الشارقة للشعر العربي.

 

عتبة العنوان في هذه القصيدة – “سحابة عاشقة”- تنبئ بكثير مما وراءها، وتوحي بدلالات مختبئة؛ فالعنوان جملة اسمية تتكون من خبر وصفة، الخبر هو “سحابة” والصفة هي “عاشقة”، والمبتدأ محذوف تقديره “هذه” سحابة عاشقة، أو “هي” سحابة عاشقة.

من ينظر نظرة أولية، من خلال لمحة خاطفة لعتبة العنوان يظن أن موضوع القصيدة هو وصف سحابة، وما ينتج عنها من مطر يهطل، أو ظل يفيء إليه الناس، لكن المتأمل حينما يطيل صبرا، يجد أن موضوع القصيدة لا يفصح عنه الشاعر إلا بعد أن يمهّد للمتلقي ويهيئه، ويكون ذلك بعد سبعة أبيات حينما يقول:

إنها الطائفُ التي ذابَ فيها ماءُ صوتي فأنبت الرَجعُ عِذقا

 

 

إذن تتمحور فكرة القصيدة حول بيان حب الشاعر لمدينته الطائف، ووصف ما حباها الله من جمال طبيعة، وروعة بيئة، وبهاء مناخ.

 

يحدثنا الشعر عن حبه للطائف، ويتغزل في طبيعتها، ويبين لنا شوق القلوب التي عشقتها، والشعراء الذين استلهموا من جمالها مادة لشعرهم، والمطر الذي يهطل عليها، والعصافير التي تغرد فوق أشجارها، ثم يستدعي من التاريخ قصة جبريل -عليه السلام -حينما بسط أجنحته، وكيف أن الطائف تنبت الحُب، وتهدي الأغاني وتمنح الفرح، وإنها جنة الله في أرضه.

 

أجاد شاعرنا في بناء معمار الفكرة لهذا النص، وأحسن هندسته بصورة تجعل القارئ لا يجد أية فجوات بين الأفكار، ولا ثغرات بين المعاني.

 

 

تنوعت الجمل في القصيدة بين الاسمية والفعلية، وكان الشاعر ماهرا في اختيار كل منها حيث يتطلب المعنى، فالجمل الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار- كما هو معلوم -والفعلية تفيد الحركة والتجدد والحدوث.

فمن الاسمية:

إنها الأرضُ حين تُنبِتُ حُبًا أزليا، سيصنعُ الحبُّ فرْقا

إنها الطائفُ التي ذابَ فيها ماءُ صوتي فأنبت الرَجعُ عِذقا

ريشُ جبريلَ بثَّ فيها النغاري مَن كجبريلَ حين ينثالُ عشقا

ومن الفعلية:

كان ترنيمُها يصحّي حداةً كتبوا فيكِ: أنتِ خيرٌ وأبقى

شربوا من سحابةٍ ذابَ فيها برقُ عينيكِ فاستطابتكِ مَسْقى

 

 

مزج شاعرنا ببراعة واقتدار، وبتوازن بديع بين أساليب الخبر والإنشاء، وإن كان قد غلب في القصيدة الخبر على الإنشاء، وهذا موفق جدا من الشاعر؛ لأن القصيدة وصفية، وذلك يناسبه الخبر، وحين أورد بعض الجمل الإنشائية كانت أيضا ملائمة جدا؛ لأنها جاءت في معرض الحوار.

 

تداعت الجمل الخبرية في بداية النص، وامتدت إلى خمسة أبيات إلى أن انتقل شاعرنا إلى الجمل الإنشائية في البيت السادس؛ حيث جاء الإنشاء الطلبي بصيغة الأمر:

رُذّ منها على سفوحِ الأغاني وانتظرْ ما يفوحُ منها ويرقى

ثم وظف الإنشاء الطلبي في صورة النداء في :

يا مدى الشعرِ والقصيدةُ بِكرٌ نهلَت من عكاظَ كِبرا وعُمقا

 

وما لبث أن عاد للخبر مرة أخرى:

إنها الأرضُ حين تُنبِتُ حُبًا أزليا، سيصنعُ الحبُّ فرْقا

 

واستفاد الشاعر من أسلوب التوكيد، وأتى به ملائما، حين أراد أن يبين أنّ موضوعه هو الطائف وأرض الطائف؛ حيث استعمل المؤكِّد “إنّ” ثلاث مرات إشارة إلى الطائف وأرضها:

إنها الطائفُ التي ذابَ فيها ماءُ صوتي فأنبت الرَجعُ عِذقا

ريشُ جبريلَ بثَّ فيها النغاري مَن كجبريلَ حين ينثالُ عشقا

ثم

إنها الطائفُ اشتهاء الأغاني من لماها الغِنا أرقُّ وأرقى

 

أبدع شاعرنا في أنسنة الحياة، وخاصة الطبيعة، ومن ذلك عباراته التي صاغها بعناية فائقة:

كان ترنيمها يصحي حداة

قال رعدها أين نسري

قالت اجلس

حرم الحب أن تضيق وتشقى

القصيدة بكر

 

 

وظف شاعرنا أسلوب الحذف بمهارة عالية، فالحذف يكون موفقا حينما يعطي الشاعر دلالات تومئ للمتلقي بمضمونه ومقصوده، لا أن يكون طلاسم يعسر على المتلقي استحضارها، ويصعب عليه تقديرها، فقد أشرك الشاعر المتلقي معه في استكمال المطلوب، واستحضار المحذوف، كما في:

والدي البحرُ حين صاغَ مرادي قال خذها إلى… وأشّرَ شرقا

 

وكذلك تبدو براعة شاعرنا في توظيف التقديم والتأخير بما يقتضيه السياق، إما لتخصيص المقدم، وإما للاهتمام به:

ريشُ جبريلَ بثَّ فيها النغاري مَن كجبريلَ حين ينثالُ عشقا

فالترتيب الطبيعي هنا: بث ريش جبريل النغاري فيها

ومثله كما في الشطر الأول:

منذ برقَين مسّ كأسي هُداها والطِلا في موائدِ الشعرِ أتقى

ومنه ما في مطلع القصيدة في الشطر الثاني:

القلوبُ التي سرتْ فيكِ شوقا هي بالحبِ في عيونِكِ غَرْقى

فترتيبها الطبيعي: هي غرقى بالحب في عيونك

ففصل شاعرنا بين المبتدأ والخبر لمزيد من التفصيل والبيان والإيضاح.

وغيره كثير في النص.

 

كما استخدم الشاعر الأفعال باحترافية بالغة، ونوّع بين أزمان الفعل جميعها، واستخدام الأفعال يعطي النص حيوية مستمرة، وديناميكية لا تنقطع؛ مما يجعل النص ذا أثر بالغ على المتلقي، ولو تتبعنا الأبيات الأربعة الأولى نجد فيها أحد عشر فعلا، منها أربعة في البيت الرابع:

 

القلوبُ التي سرتْ فيكِ شوقا هي بالحبِ في عيونِكِ غَرْقى

كان ترنيمُها يصحّي حداةً كتبوا فيكِ: أنتِ خيرٌ وأبقى

شربوا من سحابةٍ ذابَ فيها برقُ عينيكِ فاستطابتكِ مَسْقى

كلما قالَ رعدُها أين نسري؟ قالت اجلسْ: هنا الطبيعةُ أنقى

 

وهذه الحركة التي تثيرها خصائص الأفعال، دعمها الأسلوب القصصي الحواري، ويبدو ذلك جليا في مواضع كثيرة من القصيدة، ومنها الحوار الافتراضي البديع بين السحابة ورعدها:

كلما قالَ رعدُها أين نسري؟ قالت اجلسْ: هنا الطبيعةُ أنقى

وتوظيف الأفعال امتد إلى تكرراها، ولكن مع اختلاف المعنى واختلاف الزمن، وذلك يبدو جليا في الفعل “سرى” فقد استخدمه ماضيا “سرت” في البيت الأول، ومضارعا “نسري” في البيت الرابع.

 

 

 

أما الصور فكانت عميقة الدلالة، قوية السبك، متينة الحبك، انتظمت النص، واستعصت على الحصر، فالنص في غرض الوصف، والوصف هنا وصف طبيعة، فجدير بشاعر حصيف مبدع -مثل الهلالي- أن يدرك أهمية الصور هنا، أتوقف عند بعضها مثالا، وليس حصرا:

تلثمُ الروحَ بالسرورِ وتحكي فتنةَ القرطِ حين يلثمُ عُنقا

هنا جعل الشاعر ما يكون بين القرط والعنق لثما، وليس ارتداء أو مسًّا عاديا، فحين يمس القرط العنق فإنه يلثمه كما يكون بين المحب وحبيبه.

وكذلك:

يستقيها السحابُ منها ويسري يقرئ الوردَ من أماليه ودْقا

فالفعل يقرئ يستخدم عادة مع السلام، ولكن شاعرنا بتفرده أحاله إلى معنى الإمطار والسقي.

 

وصورة بديعة أخرى في قوله:

إنها الأرضُ حين تُنبِتُ حُبًا أزليا، سيصنعُ الحبُّ فرْقا

إذ جعل أرض الطائف تنبت حُبًّا وليس زرعا، فهي مدينة تُحِب وتُحَب، رغم ظلال النثرية الموجودة في العبارة الأخيرة ” سيصنع الحب فرقا” لكن الصورة المرافقة لها منحتها من جمالها وشعريتها.

وكذلك:

إنها الطائفُ التي ذابَ فيها ماءُ صوتي فأنبت الرَجعُ عِذقا

وغيرها كثير من الصور والاستعارات الجمالية التي احتشدت في النص بدقة بالغة، واحترافية عالية، ومهارة فائقة.

 

بدأ النص بالتصريع، والتصريع: هو توافق قافية الشطر الأول مع قافية الشطر الثاني من البيت الأول:

القلوبُ التي سرتْ فيكِ شوقا هي بالحبِ في عيونِكِ غَرْقى

 

كما تتنوع الظواهر البلاغية فمنها الالتفات، وهو الانتقال بالكلام من ضمير إلى آخر، كما في قول شاعرنا:

القلوبُ التي سرتْ فيكِ شوقا هي بالحبِ في عيونِكِ غَرْقى

إذ نلمح هنا ضمير الخطاب الكاف: “فيك” و “عيونك”

ثم يقول:

إنها الأرضُ حين تُنبِتُ حُبًا أزليا، سيصنعُ الحبُّ فرْقا

إنها الطائفُ التي ذابَ فيها ماءُ صوتي فأنبت الرَجعُ عِذقا

فينتقل بانسيابية فائقة إلى ضمير الغائب:” إنها” و”تنبت” و”فيها”

 

أنى اتجه القارئ ببصره يجد أنّ الشاعر كثَّف من الانحرافات اللغوية، والانزياحات باقتدار بالغ، دون أن يتعمد ذلك، وهذا جعلها عفوية، وموفقة في مكانها الصحيح، ومن ذلك:

القلوب التي سرت

صاغ مرادي

ذاب فيها ماء صوتي

مس كأسي هداها

 

 

يتناص شاعرنا في مواضع عدة مع القرآن الكريم والحديث الشريف.

فمن تناصات القرآن الكريم قوله:

كان ترنيمُها يصحّي حداةً كتبوا فيكِ: أنتِ خيرٌ وأبقى

إذ يتناص هنا مع عدة مواطن في كتاب الله وردت فيها: (خير وأبقى)

وكذلك:

جنةُ الأرضِ حدّث الشامُ عنها وعُرى ما يقول بالصدق وثقى

هنا تناص مع قوله تعالى: (فقد استمسك بالعروة الوثقى) لقمان 22

 

 

 

ومن تناصه مع الحديث:

والدي البحرُ حين صاغَ مرادي قال خذها إلى… وأشّرَ شرقا

إذ يستدعي هنا قصة صاحب البستان التي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: اسق حديقة فلان

 

 

وللصوت الموسيقي جمالية فائقة تفصح عن مهارة الشاعر في اختيار الأصوات التي تعبر عن معانيه.

ويتضح ذلك جليا في قصيدة “سحابة عاشقة”؛ حيث أجاد الشاعر في اختيار موسيقاه بعناية فائقة سواء كانت خارجية أو داخلية؛ إذ جاءت قصيدته على البحر الخفيف المعروف بتفعيلاته المزدوجة:

فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن

وهو بحر يصلح لأغراض وصف الطبيعة والأماكن لرحابته واتساعه ورشاقته وسلاسة موسيقاه.

وكذلك في موسيقا القصيدة الداخلية، ومنها تكررا حرف التاء في أواخر الكلمات، في الشطر الأول بين استمالت واستحالت:

واستمالتْ قلوبَنا فاستحالت ربةُ الشعرِ للمطالعِ أفقا

وتكررا حروف معينة في بيت واحد كما في حرف القاف في:

القلوبُ التي سرتْ فيكِ شوقا هي بالحبِ في عيونِكِ غَرْقى

حيث تكررت ثلاث مرات في مطلع القصيدة، وحرف القاف- وهو روي القصيدة- من حروف الجهر والشدة والاستعلاء والانفتاح، وقد منح ذلك النصَّ جرسا موسيقيا تطرب له الأذن.

اختار الشاعر لقصيدته قافية مطلقة؛ لما لدلالة الإطلاق من حرية ورحابة تتواءم مع امتدادات المكان، ورحابة الطبيعة، حيث موضوع القصيدة.

وزاد من وقع الموسيقا وجود الجناس الذي يعطي الكلمات جرسا موسيقيا، ومن ذلك ما بين ” أرق وأرقى” في قوله:

إنها الطائفُ اشتهاء الأغاني من لماها الغِنا أرقُّ وأرقى

 

 

 

 

 

 

تنوعت الحقول الدلالية في النص، فكان أكثرها احتشادا حقل الطبيعة وذلك أمر طبيعي؛ لأن القصيدة عن مدينة الطائف، وهي مدينة ذات طبيعة متميزة، وتبدأ مفردات الطبيعة منذ عنوان النص؛ إذ نجد كلمة “سحابة” ثم تنتظم الكلمات الدالة على الطبيعة النص جميعه، ومنها: “البحر – ودق – الطلا – الأرض- ماء – الورد – البرق – الرعد…”

 

ومن الحقول الدلالية التي وردت بكثرة حقل المكان، ومنه: ” الطائف – الشام – عكاظ …”

وغير ذلك

 

 

 

على المستوى الصرفي نجد أن الشاعر قد استخدم المشتقات، ومنها اسم المكان” مسقى” ولكن نلمح غلبة طاغية لاسم التفضيل، فكأنه يقارن –ضمنيا- بين الطائف وغيرها؛ لذا وُفٍّق في استخدامه، ومن ذلك: “أرق، أرقى، أحب، أشد، خير، أبقى، أنقى، أتقى…”

 

هذه وقفات عجلى، مع نص بديع، لشاعر متميز، حاولت إضاءة بعض جوانبه، متأملا مواطن الجمال فيه.

ـــــــــــــ

*طارق يسن الطاهر*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى