للشاعر / حسن بن محمد الزهراني()
بقلم أ.د/ عبدالرزاق حسين
أستاذ الأدب العربي بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن.
…….
عندما قدَّم لي الشاعر حسن بن محمد الزهراني ديوانه ” تماثُل ” ونحن نلتقي لأول مرة تحت سقف نادي الرياض الأدبي في أحد ملتقياته ،لم أنتبه ــ وهو يضمُّ ديوانه بيده ثم يفتحها ليهديني إيَّاه ــ إلى الضمَّة التي تتربَّعُ فوق الثاء ،حيث العبارة المشهورة :”فلان تماثَل للشفاء” فقلت : العنوان يبدو لي إمَّا أَنَّ الشعر على يديه تماثَلَ للشفاء ، أَوْ أَنَّ الشاعر أَبَّل من مرضٍ أَصابَهُ ، فكان عنوان قصيدة من قصائد الديوان ، ثم أصبح عنوان الجزءِ عنوانًا للكُلِّ .
والمماثلة في الشعر والنثر تأتي عند البلاغيين بأن ( تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة والتقفية() ) والتضاد من أسماء الطباق كما ورد في معجم البلاغة : ( الطباق ، والمطابقة ، والتضاد ، والتطبيق ، والتكافؤ ، والمقاسمة ()) .
ولست بسبب الدخول البلاغي وعلم البديع ، ولكنَّ الفرصة واتتني لقراءة الديوان والتمعُنِ في عنوانه ، حيث ظهرت لي الضمة ، وهي تضم ضميمة من باقات الورد ، تُماثِلها وتشابهها وتساويها لونًا ورائحة وبهجة ، وتحمل في ذات الوقت صفة الضدية ، فهل تذوقت العلقم في شهد النحل ؟ أو طَعِمْتَ الفلفلَ الحار في شكل الزهر ؟ .
التضاد العنواني والمضموني في “ديوان تماثل ” قد لا يبدو أنَّ الشاعر يريد شغل نفسه بصناعة المحسنات البديعة ، فعندما يختار هذا العنوان بضم الثاء ، فهو يوحي بالتشابه والتساوي ، وهذا في ظاهره ليس تضادًا كما نعرفه في الطباق عند البلاغيين ، أم أنه أراد نوعًا من أنواع التضاد وهو إيهام التضاد ؟ سيتبيَّنُ لنا ونحن نربع في ربوع هذا الديوان علَّنا نقف على بعض ما أراد وسعى إليه الشاعر .
وما أن فتح لنا الديوان بابه ، حتى فُتِحَتْ الثاءُ أيضًا ، فهل تماثَل الشاعر للشفاء من الصمت بالنطق المؤدي إلى الموت ؟ وهل نجد تضادًا بين النطق والموت ؟ ونحن نستحضر الأمثال المشهورة في الكلمة : ( ربَّ كلمةِ قالت لصاحبها دعني ،ورُبَّ كَلِمَةٍ لَبَّسْتُ علَيَهْاَ أْذُنِى مَخَافَةَ أَنْ أَقْرَعَ لهَا سِنِّى ،ورُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَة() ) أليس هناك تضاد ظاهري بين النطق والموت ؟ فالنطق دليل الحياة ، ولكن وبما أن بعض النطق يؤدي إلى الموت ، أصبح النطق موتًا ، فكان إيهام التضاد ، وهو في الوقت نفسه يتماثل للعشق الذي هو حبُّ الحياة والتمسك بها ، وهنا يكمن الإيهام بالتضاد ، فهو يتمسك بالحياة من خلال العشق ، فيبوح كما باح قيس المجنون بعشقه ، فأدَّى قوله إلى حرمانه وموته .
والسعي للنطق هو سعي الفراشة للاحتراق بالنار ، فهل النطق عند الشاعر لا يتأتى إلَّا بالاحتراق ؟ كثير هم الشعراء الذين يتعذبون بنطق الشعر حتى تأتي القصيدة ، فقلع ضرس عند الفرزدق أهون عليه من قول بيت شعر ، ونعلم شدَّة وجع وألم قلع الأضراس لمن قلع ، وكثير هم الشعراء الذين تعذَّبوا لأنهم نطقوا بالشعر ، فكان ذنبهم الذي به عوقبوا ، وما عبد بني الحسحاس إلَّا مَثَلٌ على الإصرار على النطق بالرغم من الاحتراق ، فالمــُــحَرَّقون على الزمان كُثْر . والمــُحَرِّقون لهم بالمرصاد .
وإذا كان الصمت حكم وقليل فاعله ، فالشاعر هنا ينهي قصيدته بإبلاغنا أَنَّه() :
وها أنتَ
لمَّا تماثلت للنُّطقِ
أحرقتَ نفسكَ بالضَّوْءِ
مثلَ الفراشةْ
ويبدو لي أنَّ الشاعر قد كان في نفسه ما كان عندي ، حيث وجدته يصدِّر ديوانه بقوله ():
تمثَّلْتُ للنطق .
للموتِ .
والعشقِ .
فالنطق موتُ الحقيقة،
والموت نطق الحقيقة،
والعشقُ أولى خطا الخُلْدِ
في ساحل المنطلق.
فهل نُطْقُ الشعر يساوي الموت ،! قد .! ولكن الشعر عشق فهو أُولى خطا الخلد ،
ألم يقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب بن زهير عندما سأله : ماذا أعطاك هرم ؟
قال : أعطانا مالا وحللًا .
قال عمر : ذهبَ ما أعطاكم وبقي ما أعطيتموه .
فقد بليت الحلل ، وأُنفق المال ، وبقي الشعر على الدهر .
ولعلَّ العنونة التي اختارها الشاعر لقصائد الديوان تمثِّل هذا التضاد أو على الأقل الإيهام بالتضاد ، (فصمت الصور ، والإفك ، والنساء ، وغابة الأربعة ، وواو الجماعة وتعهُّد ،ومساء الموت ، وغدًا ، ورهبة البعد في برهة القرب ، وزامر الحي ) توحي لنا بهذا التضاد الذي يغلِّف المضمون ، بل يغلِّف حياة الشاعر الذي يملؤها بالشكوى من تناقضها وتضادها .
عنوان قصيدة ” الشاعر ” قد لا يبدو في هذا العنوان بديع التضاد ، ولكنَّك إذا دخلت إلى القصيدة ، وجدتها تثبت وتنفي ، فالشاعر في رأي شاعرنا له تصنيفٌ يرتضيه ، ممَّا يعني نفي تصنيف آخر ، وهذا لونٌ من التضاد الخفيِّ ، فهناك رؤية تعرض وتفرض ، ورؤية أخرى لم ترد في النص ولكنها تُنْفَى وتُرْفَضُ ، فالإدناء مقابل للإقصاء ، والقبول مقابل للرفض ، ومع ذلك فرؤية واحدة هي التي تظهر ، والأخرى محجوبة ، ولكنَّك تلحظها ، فطالما أنَّك تحبِّذ صفة ، فإنَّك تقصي ما يضادها .
فالشاعر الحق في نظر شاعرنا يتمحور حول مجموعة من القيم ، يجب عليه أن يتمثلها ، وهي : قيم الحب ، والإحسان ، والعدل ، والصدق ، والإخلاص للمبدأ ، والتقوى في السر والعلن ، والتسامح والصبر ، هذا النموذج الفذ الذي يراه شاعرنا في الشاعر الحق ، سنبحث عنه عبر كل العصور السالفة والحاضرة ، فإن لم نجده نأمل أن يأتي في الأعصار القادمة ، وهذا يذكرني بطرفة تراثية ، فقد أراد أحدهم أن يشتري دابة ، فوضع لها من الأوصاف ما يستحيل ، فقال() : (أريد أن تبتاع لي عيرا ليس بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر. إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، يصر إذا ركبته بأذنيه، ويلعب بيديه، ويمرح برجليه ، إن استنهضته هام، وإن استوقفته قام، وإن أقللت علفه صبر ، وإن أكثرته شكر. فقال اصبر قليلا فإن مسخ القاضي حمارًا اشتريته ) .
مع فارق التشبيه ، فرفقًا بالشعراء ، فهل إذا خلا أحدهم ، وما أكثر من يخلو! يطرد من جمهوريتك ؟ وينفى من أرضك ؟ فالشاعر إنسان تتقلب به الأحوال والأهواء ، وتتغير آراؤه ، وتتطور أفكاره ، فالقالب الواحد لا يتسع ، والاختلاف كما قيل هو الأصل .
ومن قديم وإلى الآن وتعريف الشاعر يحيِّر ، ويستفزُّ ولا يستقر ، فهل هو وحي يوحى ؟ أم عبث جنٍّ يلقيه في روع من يصطفيه ؟ أم هو موهبة وفطرة ؟ وميلٌ وإبداع ؟ أم علم وصناعة ؟ وقد وقف شاعرنا في تعريف الشاعر عند نهاية آية من سورة الشعراء ، مع أنَّ الله عزَّ وجل شمل الصنفين في تعريف الشعراء ، فقال عزَّ من قائل :
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ , وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ , إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 225]
فزامر الحي كما قيل لا يطرب ، على الرغم من إبداعه وإجادته ، وهنا يكمن التضاد الإيهامي في تعامل الأهل مع زامرٍ غريب أقلُّ إتقانًا وجودة ، ولكنه يحظى بالتكريم والإعجاب ، فهل نقول أو يقول الشاعر؟ : ” أزهد الناس في عالمٍ أهله ” كما نجد في قوله()
في كلِّ حيٍّ زامرٌ لا يُطربُ = ولكلِّ قومٍ مخلصٌ لا يُعْجبُ
هامت بتلفيق الغريبِ عقولُنا = فهنا محبٌّ للهراءِ وَمُعجبُ
وبوجهِ إبداعِ القريبِ تجهَّمَتْ = جلُّ الوجوهِ فمقتُها يتلهَّبُ
المبدعونَ هنا محلُّ تهكُّمٍ = والمبدعون هناك تاجٌ يُنْصَبُ
وهنا تبدو المقابلة واضحة بين مبدعٍ قريب ، وأقل إبداع بعيد ، حيث الإنكار على الأول ،و الإعجاب بالآخر .
فهل تماثل الشاعر للشفاء ؟ أم أنه ما زال يعانى من الأمراض والآلام العديدة التي شحن بها ديوانه ؟ فمرض الحزن الذي فتَّ في عضده ، ومرض العقوق الذي أقضَّ مضجعه ، ولوَّن شعره باللون القاتم ، كون الذين أَدَّى إليهم المعروف أنكروه ، وتجهَّموه ، وعدم التقدير الذي يحظى به المبدع في مجتمعه كان ثالثة الأثافي ، كل ذلك بل بعض ذلك يؤود الظهر ، وقد يكسر الفقار .
ويستمر الشاعر الزهراني في فضائه الوسيع ، وهو يتوكأ على خيزرانٍ من الصبر في ” صمت الصور ” فالصور الصامتة وإن كانت كذلك فإنها توحي لمتوسِّمها إيحاءات جمَّة ، إذ هي ناطقة بملامحها ، بنظراتها ، بسحنة وجهها ، فنحن نقرأ السيمياء على وجوه الصور ، فهل مضمون هذه القصيدة يوحي بهذا التضاد الذي جعلناه عنوان هذه الدراسة ؟ وندَّعي أَنَّنا تبطَّنا قصد الشاعر ، هي أدلة وعلامات ترشدنا ونهتدي بها ، فالسعة بعد الضيق في الطريق ، والحقول التي توحي بالنضرة تحولت إلى يابسة ، والأشجار المزهرة التي خنقها الذبول ، تبين عن سيطرة هذا البديع على قصائد الديوان ، ولنقرأ قوله():
توكَّأَ حلمي
على خيزران
منَ الصَّبرِ
سدَّ اتساع الطريق الذي
سار بي في حقول العقول التي
يبست كلُّ أشجارها
ذبلتْ كلُّ أزهارها
لقد شغل التضاد شاعرنا رغم أنفه ، فصورتا الضدية اللتان تلاحقه في حركاته وسكناته ، تلازمه كظله ، ترتسمان على حوائط الطرق التي يسير بها ، وعلى جدران الأبنية ، فصورة العطاء تقابلها صورة الأخذ ، والإيثار تقابله الأنانية ، والجميل ينتج قبحًا ، والمعروف يبعث نكرانًا ، لماذا كلُّ هذا لأنَّهُ كما يقول() :
لمَّا جمعتُ الأحبَّةَ
في بهوِ قلبي
وأسقيتهم
من ينابيع حبِّي
زلالًا
فكان صنيعي عليَّ وبالًا
لأنَّ الأَحبَّةَ
عاثوا بأحقادهم
في رياضِ فؤادي
فسادًا
وتأتي قصيدة ” غابة الأربعة ” لتسير في المضمار نفسه ، فالغابة ـ الحياة ـ التي يصفها لنا الشاعر ، هي ما نراه ونعايشه في حياتنا ، والحياة مليئة بالتناقضات التي نسميها في البلاغة التضاد ، فهناك الأسود والأبيض ، والطويل والقصير ، والكريم واللئيم ، والحب والكره ، والفرح والحزن ، واليسر والعسر ، والقبيح والجميل ، وغابة شاعرنا تضج بكل هذا ، ولكنه ينَحِّي صور الجمال، ليكرِّس صور القبح التي تنضح بها ، فالدخول إلى هذه الغابة موت محتَّم ، والخروج منها كما جاء في المثل المشهور ” مكره أخاك لا بطل ” أو المثل الشعبي ” الداخل مفقود ، والخارج مولود ” أيُّ غابة هذه التي تضج بزئير السباع ، وهمهمات الضباع ؟
أيُّ غابةٍ هذه التي بدل أن تنبت الأقحوان والزيزفون ، ويفاءُ إلى ظلالها ، ويستروح بنسائمها ، تنبت الحقد وتزفر بالجحيم ؟
يموت فيها الوفاء ، ويسود فيها الجفاء ، الحياة فيها كالموت كما يقول()
غابةٌ
كلُّ أبوابها
مشرعة
كلُّ أكوابِها بالأسى مُترعةْ
غابةٌ
مات فيها الوفاء
سادَ فيها الجفاء
أصبح العيشُ
كالموت
ما أَبشعهْ
غابةٌ
رقصت بين أشجارها
همهماتُ الضِّباع
وزئير السباع
كلُّ ساعاتها
ساعةٌ مفزعة
رؤية هذه الغابة مخيفة ، رؤية تصادمية ، تشاؤمية ، تضادية ، أيُّ قنوط هذا الذي يصل بالشاعر لا إلى الزهد بالحياة كما زهد فيها أبو العلاء المعري ، ولكنه يتضجَّر من كلِّ صورها القاتمة ، فما عادت الحياة حياة ، وإنَّما تحوَّلت كما يراها سعيرًا ، كلُّ هذا النفث هل يدلُّ على تكدُّس الصَّدر بالآلام ؟ فهذه الرؤية المجللة بالسواد المترعة بالأسى تجعل المماثلة بين الحياة والجحيم قائمة ، لماذا ؟ أَلإنَّ الشاعر برهافة حسه ، ورومانسيته الحالمة يضخم الأشياء ؟ أم أنَّ بعض الشعراء يخترعون الألم ويعيشون وهمه كي يحترقوا بنار القصيدة ؟ أسئلة قد يكون الجواب أحدها .
ودليل التقلب والتحول والتضاد والمقابلة ، هو أنه بعد أن يعرِّي هذه الحياة من كلِّ لون من ألوان البهجة ، يعرض لصورة كان قد عاشها في الحياة ، يقول()
يا لقلبي الذي
دهره روَّعَهْ
كان في جنةٍ
روحها مبدعةْ
عطرها عابقٌ
وردها عاشقٌ
وجهها يشبه
الشمسَ ما أنصعَهْ
كلُّ أوقاتها
عذبة ممتعة
لينهي بهذه المقابلة حيث تحوَّل البياض إلى سواد ، والبهجة والسرور إلى الويل والثبور ، يقول :
جنَّتي أصبحت
غابةً مفجعةْ
فرَّ منها الحنانْ
خرَّ فيها الأمانْ
خلعَ الصَّدرُ عن
قلبها أضلعهْ
لأنَّ الأربعة تسيدوا ، وزمام الأمور يقاد بأيديهم :
كلُّ من خان فيها
تُغَنِّي معه
كلُّ من جارَ فيها
تُغنّي معه
كلُّ سكَّانها لبسوا أقنعةْ
من خان ومن جار هذا اثنان ، فأين بقية الأربعة ؟
وإذا كانت المبالغة هي التي جعلت كل سكانها من المقنَّعين ، فإنَّ قصيدة ” واو الجماعة ” تعارض ما هو مألوف من أنَّ يد الله مع الجماعة ، فالجماعة في عرف هذه القصيدة خواء ، هل فقد الشاعر الثقة ؟ أم يأس من الإصلاح ؟ أم أنَّ عبارة لا يأس مع الحياة قد تحوَّلت إلى اليأس من الجماعة ؟ وهذا لون من الإسقاط النفسي ، فصب جام الغضب على الجماعة كونها عجزت عن تحقيق أهدافها يتكئ عليه الشاعر ليبرِّر كلَّ هذا الهجوم عليها ، حيث يقول()
سيروا
على أثداء
جمر الغدر
يا جيش الغثاء
المر
وامتزجوا
برائحة البشاعةْ …
واوٌ
لها دوامة عنقاء
تأكل كلَّ ما تأتي عليه
من الفسائل
والسنابل
والنخيل
السلسبيل
وما بحضرتها
شفاعةْ
… من حفرة اللؤم
الوضيع
تمدُّ عين الشَّرِّ
حولَ قطيعها
أنشوطةً سوداءَ
خاسئةَ الصناعةْ
واوٌ
بضاعتها من الشنآن
قد جُلبتْ
وفي سوق الخيانةْ
والخنا بيعتْ
فيا بئس البضاعةْ
عجبًا لأمر
قطيع تلك الواو
كيف أطاعها
وأسوده هزَّت
لها أذنابها ذُلًّا
وصار زئير غضبتها ثغاءً
تحفل هذه القصيدة كما في بعض قصائد الديوان بالألفاظ السوداء التي توحي ببلوغ السيل الزبا ، ولم يعد في قوس الصبر منزع ، فألم الشاعر الممض من النكران والعقوق ، علقم ألفاظه ، وران على صوره ومعانيه فغطاها بغبش الغبار والدخان ، فألفاظ مثل : ” جبن ، جدباء ، شك ، تردد ، تقهقر ، بوم الجهل ، فقاقيع العقول ، أجاج ، ضراعة ، الوضاعة ، جمر الغدر ، قوِّضوا ، البؤس ، الرجس ، الشر ، خاسئة ) ألفاظ تنبئ عن غضب وقسوة على هذه الواو التي لم تستطع أن تحقِّقَ أمنيات الشاعر ، حيث كان يريد منها ما يضاد هذه الألفاظ ، حتى الثدي الذي هو مصدر الغذاء والحنان حوله إلى ثدي يغم ، يبدو أنَّ رقعة السواد غطَّت على مضادها فلم يحصد غيرها ، فهذا بيدري وهذا حصاده .
ويسير موكب القراءة في نهر التضاد ليحط مركبه عند ” تعهد ” الشاعر الذي يهدي هذه القصيدة إِلى أعمدة النور المظلمة .
كيف يكون النور مظلمًا ؟ هنا يتحقق التضاد الإيحائي ، فما نراه منيرًا هو في الحقيقة العتام بعينه ، فالسحنات وإِنْ بدت في ظاهرها بشوشة ، فخناجرها تحت أثوابها ، والضحكات تخفي تحت أنيابها المبتسمة السم الناقع ، وهنا يبدو أنَّ الشاعر قد تكاثرت عليه الجراح كما تكاثرت الظباء على خراش ، فما يدري ما يصيد منها ! وهذه الطعنات المتتالية التي وُجِّهت لصدره كشفت له عن لثام الدنيا ، فيصرَّح قائلًا()
أتعهد
وأُقرُّ الآنَ
في أبراج إحساسي
وفي أوراق أنفاسي
أنَّ من يخدع
بالسحنات بعدي
عن طريق الحق ناكب ..
إِنَّ صِدْقَ الودِّ
في هذا الزَّمانِ الفجِّ
حلمٌ
من جبين
الفرقد المسحور
أبعدْ
يا لزور البسماتْ
يا لزيف القبلاتْ
تكشف المستور
أيام الزمان ْ
يظهر الوغد
من الإنسان
والبهتان
وما يفجع الشاعر هو أنه عاش زمنًا وهو مخدوع بهذه الضحكات والبسمات التي ظهرت له في النهاية على غير حقيقتها ، فلام دفتره وقلمه ولسانه على ما كان من ثقته ، ومع ذلك فهو يتعهد بأن يزيل من قاموسه كلَّ ما خطه سابقًا ، أهي توبة ؟ أم قبول بالواقع ؟ أم أنه من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، كما ورد في قوله في نهاية القصيدة ():
أتعهَّدُ
أن أُذيب الجمر
في بلورة الصبرِ
وأُهدي البدر
قاموس نواميس المعاني
وتضاريس الثواني
وهواجيس الغواني
وعلى ما قلت
أو دوَّنتُ
من أزهار أفكاري
وعلى الرغم من هذا التعهد ، فإنَّ تضاد الفرح والأمل والتفاؤل يطغى على معظم قصائد الديوان ، فقصيدة “غدًا ” في العرف هي تضاد مع الأمس ، فإذا كان الأمس قاتمًا ، فالأمل بالغد أن يعوِّض ما فاته ، وإذا كان الأمس مبهجًا فما ندري ماذا يخبئ الغد ؟ ولكنَّ الشاعر يستبق هذا الغد دون أن ينتظر حدثه ، يقول في ابنته سحر التي جهزت نفسها لدخول المدرسة()
غدًا سيفتحُ بابُ الهَمِّ يا سحرُ = وتمتطي قلبكِ الأعباءُ والكدرُ
غدًا تسيرين في دربِ العناءِ كما = سِرْنا ويُشقي خطا أحلامَكِ السَّفرُ
غدًا حقيبتُكِ السوداءُ تملؤني = خوفًا وتملؤها الأوراق والصورُ
غدًا تُجرِّعُكِ الأيَّامُ علقمها = ويرتمي فوقَ نامي صبرِكِ الضَّجرُ
فالأب الذي يأخذ ابنته لأول مرة إلى المدرسة يكون منشرحًا فرحًا ، وينبسط لديه الأمل فتُزْهِرُ الرؤىً الحالمة بكل ما هو مبهج وسعيد ، وشاعرنا يتنبأ بغدٍ بائس تعيس . أقول لو أن ابنته كانت مدركة لهذا القول لامتنعت عن الذهاب للمدرسة .
وعلى الرغم من اللغة العطرية التي يمتلكها الشاعر لكنه غمسها بوحل التشاؤم ، فالألفاظ الزاهرة تلطَّخت بطينه ، ليت الشاعر نجا من سقوطه في وحل التشاؤمية ، فهو يبهج ويَسُرُّ ويبدع في انتقاء الألفاظ الرائقة ، والمعاني الرائعة ، وانظر قوله في قصيدة غزلية ينسجها بألوان الزهور ، ويزينها بالفسيفساء ، يقول() :
ما بالُ قُربُكِ زادني وُدَّا = وسقى القوافي بالمنى شهدا
أَدنو بلهفة عاشقٍ وَلِهٍ = فأَزيدُ يا محبوبتي وجدا
أَدنو لأطفئ شوقَ أَوْردتي = فأَراهُ عندَ القربِ مشتدَّا
فهواكِ يا محبوبتي شجنٌ = مدَّ الحياةَ بمهجتي مدَّا
غيثٌ من الآمالِ يسكنني = فيزيدُ وجه مسرَّتي سعدًا
بالله يا مَنْ عَطَّرَتْ لغتي = وسَقَتْ بروضِ مشاعري وردا
قولي لنارِ الشوق في كبدي = كوني على مضنى الهوى بردا
ضُمِّي بأهداب الرضا قلبي = وضعي لطول تلهفي حدَّا
يا نار كوني بردًا على قلب هذا المعنَّى المضنى ، المتيَّم ، ليسمعنا من أنغامه ، ويرشفنا من رحيقه ، أرأيت أن الحياة تستحق ؟ ونجد ذلك في قوله ():
احمليني
على زورق العشق
في بحر عينيكِ
في دفء كفيكِ
في ضوء خدَّيكِ
رمزًا خفيًّا من الشِّعْرِ
يعبرُ كلَّ المسامِ
إلى القلب
يقلبُ كلَّ اتجاهات كوني
ويقبلُ بي ..
ومع زورق العشق وبحر العيون الدافئ ، إلَّا إنَّ أمواج التضاد تتلاعب بهذا الزورق ن يقول :
أمامي ضياء الجبين
وخلفي سواد السنين
وبيني وبينك
برهةُ قُرْبٍ
ورهبةُ بُعدٍ
ومزودتي
من رحيق القوافي
بهاء ،
وأوردتي
من حريق المعاني
هباء
فهلا أعدت
إلى شاطئي
نورس الأمن
واللحن
في ثغر قيثارتي
والحنين
تبدو المماثلة واضحة في هذه القصيدة ، في كل كلماتها وزنًا وقافية ، حيث تتماثل الألفاظ : ( أمامي وخلفي وضياء وسواد ، والجبين والسنين ، وبرهة ورهبة ، وقرب وبعد ، ومزودتي وأوردتي ، ورحيق وحريق ، وبهاء وهباء ) مع وضوح التضاد أو الطباق الحقيقي بين الأمام والخلف ، والضياء والسواد، والقرب والبعد .
أخيرًا أقول : لا نستطيع أن نقول للشاعر قلْ ، بل هو يقول ما تمليه عليه عواطفه وتجربته ، وقد قيل لعمر بن أبي ربيعة ، لو مدحت الرجال لسار شعرك . فقال : أنا لا أمدح إلَّا النساء .
ومع أنَّني لم أرد في هذا البحث الدرس البلاغي ، بمقدار ما حاولت أن أبين عن قدرة الشاعر على التخفي وراء التضاد الإيحائي ، بفنية ، ويسر ، وبلغة عطرية أنيقة على الرغم مما شابها من هذا التجهم الذي نتج عمَّا ران على هذه القصائد من تشاؤم ، ومع ذلك فقد انْفعَلتُ بالديوان ولم أكن مُفْتَعِلًا ، فالزهراني لم يكن قد سبق لي معرفته ، إذ كان هذا هو لقائي الأول به ، ولكنَّ ديوانه انتزع مني هذه الأقوال ، فقلت :
أهديتني بعض الشَّجَن = رصفَ الزُّهورِ على الفنَنْ
هيَ في الجمالِ خريدةٌ = والحُسْنُ فيها مُرْتَهَنْ
عينانِ ساحرةُ الرّؤى = سحرُ الذُّبولِ مع الوسنْ
وبقامةٍ ممشوقةٍ = رمـــــحٍ رُديـــــنيٍّ يُــسَـــــنْ
وضفائرٍ منشورةٍ = نشرَ الغيومِ على القُنَنْ
هذا التماثُلُ صيِّبٌ = منْ ثغرِ غيمٍ قدْ هتنْ
صوتٌ بأسماع الدنا = وصداهُ حلوٌ بل أغنْ
من ثغرِ باحةَ شدوُهُ =لله درُّك يا حسَنْ
……
مصادر ومراجع البحث :
ـ ديوان تماثل لحسن بن محمد الزهراني ، الطبعة الثانية 1431هـ / 2010م
ـ ربيع الأبرار ونصوص الأخيار لجار الله الزمخشري ، مؤسسة الأعلمي، بيروت ، الطبعة الأولى، 1412 هـ
ـ مجمع الأمثال : أبو الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني النيسابوري (المتوفى: 518هـ)
تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد ، دار المعرفة – بيروت، لبنان