محمد الرياني
في الحافلةِ المتوسطة أظلمَ كلُّ الزجاج بسواتر إلا جهة واحدة، أصرَّ على أن يركبَ من الجهة التي تكشف أسرار الطريق، الجانبُ الأيمنُ في البلد البعيد عنهم يخضرُّ بأشجار عالية نبتت من الأمطار المتتالية، احتفظَ بحالة من السكون غير معتادة منه، انشغل البقيةُ بمتابعةِ عرضٍ مرئي عن الحياة الفطرية والمناظر الخلابة، بدت معالم المدينة تنكشف لهم، الأبراج المصممة على الطراز الحديث، الشوارع التي تجمع كل الأعراق، الضجيج والإنارة المتعددة الألوان، طلب من السائق التوقف، ارتابوا في أمره وأنه أصيب بغثيان ، ردَّ بحنق وانفعال وهو يشير بيده إلى أحد العناوين البارزة ، اندهشوا من هذا الطلب الوضيع الذي لايتناسب مع وضعه، لم يذعنوا لطلبه وظنوه من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وقف وأخذ يمزجر وأنَّ على السائق أن يتوقف ، تركوه ينزل على أن يعودوا له بعد إفراغ نهمه ، تهامسَ بعضهم في الحافلة خوفًا عليه من شرور أفعاله، وبعضهم أشفق عليه من شظايا الزجاج في المكان الذي ذهب إليه ، توقفت الحافلة عن السير، دخلوا مطعمًا للمشويات الحارة ليطردوا بردَ المدينة العملاقة، رنَّ هاتف أحدهم قبل أن يطلبوا العشاء، لم يعيروا الرقم الغريب اهتمامًا فالعشاء عندهم أولى في ليلة شديدة البرودة، تكرر الاتصال وهم يتناولون وجبة من اللحم المشوي الحرّاق ، جاء صوته على مكبر الصوت غير موزون وهو يستغيث، تركوا نصف العشاء على الطاولة وبعضه لم يمسسه أحد، نادوا على السائق الذي يقبع على طاولة مجاورة أن أدر محرك الحافلة للعودة على نفس المسار، غسلوا أيديهم بسرعة واتجهوا نحوه يستطلعون الخبر، تركوا مقعده خاليًا خوفًا من لسانه، بعد بضعة أميال شاهدوا اللوحة المريبة التي توقفوا عندها فاقتربوا منها لقراءتها، اندهشوا أن نصفها مضيء والآخر معتم، توقفت الحافلة ونزلوا مجتمعين باتجاهه يستطلعون الخبر، اقتربوا منه وحولهُ زحامٌ وضجيج ، وجدوه يدور ويصيح ويهذي ، اشتكى منه أصحاب المحل بأنه قذف لوحة الإعلان بالقوارير المنثورة عند البوابة حتى أخفى نصفها لدرجة الإظلام وأنه أخاف المرتادين ، تعاونوا عليه وأدخلوه الحافلة ثم أجلسوه مكانه ، رشّوا عليه معقمًا ومعطرًا لطرد الرائحة الغريبة، أراد السائق أن يتحرك ولكنه أفاق فجأة فمنعه، طلب منه أن يضع ستارة تحجب عنه الرؤية، لايريد أن يرى عنوانًا مماثلًا على المسار الآخر.