محمد الرياني
أشفقتُ على الصغيرةِ تبيعُ الفُلَّ في مكانِ ليس مكانه ، سألتُ نفسي ألهذه الدرجةِ تتسلى أم أنَّ الحاجةَ تجعلُها ترضى بالكفاف ؟ اقتربتُ منها فإذا وجهها يضيء كالقمرِ تلتفُّ حوله قطعةٌ خضراء لايُرى إلا عيناها وأنفها وفمها الصغير ، قلتُ يا …قالت بذكاءِ الصغارِ حَلا ، حَلا ..ما أروعَ اسمك ! ضحكتْ ومالتْ برأسِها نحوَ حبَّاتِ الفلِّ المصفوفةِ على خزَّان الثلجِ الذي يحفظها ، ناولتني حبَّةً لأشمَّ رائحةَ الحقلِ الذي قُطِفَ منه ماثلًا أمامي ، أخذتُ نفسًا عميقًا أمامها وهي تتأملني ، سألتني عمَّا إذا كنتُ أودُّ الشراءَ منها ، تلفتُّ حولي فلا يوجدُ غيري ينوي الابتياعَ فلًّا في سوقِ الملابس ، أصحابُ المحلاتِ حولَها يثيرون الاهتمامَ بنداءاتِهم وعرضِ ملابسهم الملونة ويجيدون رسمَ الابتسامةِ على مرتادي السوق وهي تجلسُ بحشمةٍ جميلةٍ دونَ صوت ، قلتُ لها سأريحكِ من كلِّ هذا الفل ،سأشتريه كلَّه منكِ ولاتعودي لهذا المكان ، كلمتُها بصوتٍ منخفضٍ أن تذهبَ إلى محلاتِ الروائحِ العطرية ،هزَّت رأسَها بالموافقة وقالت هل لاتزالُ تريدُ شراءَ الفل؟ أدخلتُ يدي في جيبي وسلمتُها ثمنَ الفلِّ والخزَّان البارد معا ،يبدو أنَّ أهلَها قد دربوها على البيع صغيرة ، لوَّحتْ لي بكفِّها الصغير وأمسكتْ بالنقودِ تعدُّها من جديد ثمَّ وضعتَها في حقيبةٍ صغيرةٍ خضراءَ اللونِ وحملتْ كرسيَّها الصغيرَ الملونَ المصنوعَ من البلاستيك وغادرتْ ونظراتي تتبعها حتى دخلتْ زُقاقًا صغيرًا فانفتحَ البابُ الحديديُّ المتهالكُ على سيدةٍ في الأربعين كما يبدو ، لم يكن البيتُ بعيدًا ، سألتُ نفسي ماذا سأفعل بهذا الفل ؟ لاتوجد مناسبةٌ له ، عدتُ وهم يسألونني عن الملابس ، قلتُ سامحَ اللهُ (ْحَلا ) هي التي أنستني شراءَ الثوب ، أعدُكم أن أعودَ وأشتريه ، مرَّ الموقفُ دون المزيدِ من الأسئلة ، تركتُ لهم الخزَّانَ والفلَّ وليلةً فاخرةً من صُنعِ حَلا ، عدتُ في الليلةِ التاليةِ لسوقِ الملابس ، المفاجأةُ كانت أكبر ! حَلا تبيعُ الفلَّ من جديد ومعها أخرى أصغرَ منها ، نادتني برقَّةٍ وهي تسأل عن فلِّ البارحة ، رددتُ عليها بحزمٍ : ألم أقل لكِ لاتبيعي الفلَّ هنا؟ وأنَّ عليكِ بيعَه في سوقِ الروائحِ العطرية ، شاركتْها الصغيرةُ بلثغةٍ في لسانها هل تريد فلًّا ياعمي ؟ لم أعرها اهتمامًا فقد كانت عيني على ثوبٍ نسائي ذهبي اللون يقابلها ، تركتُها واتجهتُ لشرائه دون مفاصلةِ بسبب سعره المناسب ، لحقت بيَ الصغيرةُ رفيقةُ حَلا ثم أمسكت بثوبي ومشت معي أمامَ مرتادي السوق ، اشترِ معي الليلةَ كما فعلتَ مع أختي ، أحزنتني وقلتُ في نفسي: إنها الحاجة ، ذهبتْ وأحضرتْ كلَّ مامعها فدفعتُ لها دون تردد ، قالت أنا اسمي( ظهراء ) وهي تلوي لسانها ،قلتُ ضاحكًا زهراء ،هزَّت رأسها بنعم وقد ملأَ الدمعُ عينيها من فِعلي وموافقتي ، عدتُ بالفلِّ والثوب ، قالوا فعلتْها معك حَلا ،قلتُ لا ،هذا فعلُ (ظهراء ) وأنا أضحك ، أعني زهراء، مرَّ زمانٌ وعدتُ فيه إلى المكان ، سألتُ عن حَلا وزهراء في السوق فلم أعثر عليهما ، مضى العمرُ وعدتُ أشتري ملابسَ من السوق القديم ،اقتربتْ مني سيدةٌ في العقدِ السادسِ تريدُ الشراءَ وأنا أرى عقودَ الزينةِ على بوَّابةٍ قديمة ، قلتُ لها يبدو أنَّ هناك عرسًا هذه الليلة في الحي ،قالت لي ألا تدري وهي تحسبني من الحي ؟ هذا عرسُ حَلا وزهراء ، حَلا وزهراء رددتُ معها ، حضرَ أمامي مشهدُ الفلُّ الذي اشتريته منهما ، ابتعتُ هديتين للزواجِ وغلفتُهما وذهبتُ مع السيدة حتى البوابة ، نادت عليهما فسمعتُ صوتَ إحداهما تجيبها : انتظري يا أمي ، والهديتان قد سلمتهما لها ، حضرتا وتناولتاها منها واكتفتا بنظراتِ الاندهاش نحوي ، قلتُ : حَلا … ظهراء ، لم تتعرَّفا عليَّ ، هما كبرتا وأنا لم أعد أشتري الفل ، اكتفيتُ بالعودةِ إلى الأطلالِ لأستمعَ لمراسم العرس.