ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحكي الأسطورة اليونانية عن ملك أتاه عرّاف ذات يوم ،وقال له :إنك ستنجب ولدا ،وسيقتلك ،وسيتزوج زوجتك التي هي أمه.
منذ ذلك الوقت فارق الملك فراش زوجته خوفا من الإنجاب، وهروبا من تحقُّق النبوة،أحست زوجته “جوكستة” بزوجها يتجنب فراش الزوجية، فتربَّصت به ذات يوم وسقته خمرا ، فشرب حتى ثمل ،ثم استدرجته إلى فراشها ،فكانت النتيجة أن حملت الزوجة ابنا.
انزعج الزوج الملك، لقدوم هذا المولود غير المنتظر ، فقرر التخلص منه ؛ إذ طلب من راعٍ يعمل معه أن يأخذ الولد معه إلى الجبل ، بعد أن ربط قدمَي الطفل وشد وثاقه ،حتى تورمتا ،من هنا جاءت تسمية الولد “أوديب” ومعناه بالإغريقية ذو القدمين المتورمتين ،أخذ الراعي معه الطفل أوديب إلى الجبل؛ لينفذ أمر الملك ويقتله ، لكن رقّ الراعي لحال الطفل البريء ،فأعطاه لراعٍ آخر يعمل مع ملك آخر ، ليتخذه ولدا لأنه لم ينجب.
ارتحل الطفل أوديب مع الراعي الثاني إلى الملك الآخر ،الذي كفله برعايته وعنايته وأحسن تربيته ، هو وزوجته ،نشأ أوديب وكبر معهما وظن أنهما والداه ، بعد فترة تداعت بعض الأحداث التي غرست الشك في أوديب أنه ليس ابنهما ،وكان قراره بالفراق عنهما ، وفعلا غادرهما وغادر مملكتهما إلى مملكة “طيبة” التي يحكمها والده الحقيقي، وهو لا يدري.
في الطريق وصل عند شعب جبل ،قابله موكب لأحد الملوك، وكانت أولوية المرور لأوديب حسب سبقه مكانيا وزمانيا، لكن موكب الملك أصر على المرور قبله ، وحدث بينهما شجار تطور إلى قتال ، حتى قتل منهم عددا كبيرا من بينهم الملك نفسه “والده”
واصل سيره وسمع في الطريق أن حيوانا رأسه رأس إنسان وجسمه جسم أسد يسمى “أبا الهول” يقف على مدخل مملكة طيبة ، ويطرح سؤالا على كل الداخلين ومَن لا يعرف الإجابة كان مصيره القتل، ولم يظفر أحد بالإجابة، يقول السؤال : ما الحيوان الذي يمشي في الصباح على أربع والنهار على اثنتين وبالليل على ثلاث؟.
كان أوديب ممن اشتهر بالذكاء ،فأجاب مباشرة : هو الإنسان، الصبح أي فترة الطفولة عندما يحبو على أربع، والظهر أي الشباب على اثنين “رجليه” ، والليل أي عند الكبر على ثلاثة ، رجلاه وعكاز.
خلّص أوديب المملكة من خطر أبي الهول ،الذي مات في الحال ، بعد تمكّن أوديب من إجابة السؤال وحل المشكلة .
كان الملك قد أعد جائزة لمن يجيب عن السؤال، ويخلص المملكة من الكرب ، كانت الجائزة هي أنه يتنازل له عن العرش و، يزوجه زوجته.
دخل أوديب منتصرا ظافرا بالحل وبالعرش، وبالزوجة التي تزوجها وعاش معها سنوات أنجب منها طفلين.
لم يمض أوديب في تولي الحكم كثيرا حتى أصاب المملكة طاعون فتك بالناس ، احتار الناس في سبب الطاعون وكيفية التخلص منه ، ذهب الكهنة يستجدون الآلهة ، وأخيرا توصلوا لسبب الطاعون ، وهو أن الآلهة غضبى ” لأن هناك معصية كبرى اقترفها أحد الناس ، فهنا في المملكة من قتل أباه وتزوج أمه ، لذا كان الطاعون عقابا لأهل المملكة بسبب هذه المعصية لأنهم سمحوا بحدوثها، ولن تتعافى المملكة من الطاعون إلا بعد الأخذ بيد المجرم .
تحمس أوديب لهذه الفكرة ، وبدأ في البحث عن الجاني ، وهو على استعداد لتخليص المملكة من المجرم مهما كان، حتى لو كنت أنا .
كان الكاهن الأعمى “ترسياس ” يعلم أمر أوديب ،وأنه هو المقصود بذلك، وهو من عاشر أمه، وأنجب منها طفلين، هما ابناه وأخَواه في الوقت نفسه!!
كان ترسياس يلمّح لأوديب بذلك، ولم يصرح ، هنا انتاب الشك أوديبًا، وما زال الشك مسيطرا على أوديب ، إلى أن جاء الراعي الذي حمله للملك الثاني ،ينعي لأوديب وفاة الملك ،قائلا له : إن أباك توفي والناس هناك يريدونك لتحكم مكانه، هنا استبشر أوديب وارتاحت نفسه قليلا ، إذن الذي توفي الآن هو أبوه ، وليس الذي قتله عند شعب الجبل، هنا بدأ ترسياس يكثف تلميحاته ، ويضغط على الراعي الأول والثاني، هنا اعترفا بالحقيقة ، وتبين أن أوديب سبب عقوبة الآلهة ، فهو الذي قتل أباه وتزوج أمه –ولم يكن يدري- وجلب الطاعون للناس-ولم يكن يدري-، وطالب بعقاب المجرم –ولم يكن يدري.
هنا عاقب أوديب نفسه ؛ إذ فقأ عينيه، حسرة وألما على وضعه المشين، فجأة سمع الجميع صرخة تأتي من الداخل كان مصدرها “جوكستة” أمه وزوجته ،قد انتحرت بشنق نفسها عندما سمعت الحقيقة.
إذن تلك كانت نبوءة العراف ، تحققت شيئا فشيئا؛ إذ قتل أوديب أباه وتزوج أمه!
تلك إذن قصة أوديب ، كما ترويها الأسطورة اليونانية ، لكن تحولت من الأسطورة إلى الأدب على يد الكاتب اليوناني سوفوكليس الذي يشكل مع اسخيليوس ويوريبيدس مثلث المسرح اليوناني .
لم يضف سوفوكليس شيئا على أحداث الأسطورة ، وإنما تناولها بأسلوب أدبي متميز وتقنية فنية عالية ؛مما أدهش الجميع في مسرحيته التي أسماها “الملك أوديب”.كما قال الدكتور محمود الربيعي في كتابه مأساة أوديب.
صعوبة الأمر-لدى سوفوكليس- تكمن في أن الأحداث كانت معلومة للمتلقي ،وختام القصة معروف ،إذ لا شيء يدعو إلى الدهشة والتشويق وترقّب النهايات لدى المتلقي ، هنا تميز سوفوكليس لأنه نقل أحداثا عادية وجعلها غير عادية ،هنا مكمن الجودة حينما يناقش الكاتب أحداثا خالدة في ذهن الجمهور مع ذلك يحس الجمهور بالمتعة.
كان سوفوكليس -كما أسلفت- أول من نقل قصة أوديب من الأسطورة للأدب ، ثم تلاه كثيرون، وكان هو المظلة التي استظل بها الآخرون لكنهم لم يتفوقوا عليه.
من هؤلاء الكتاب ما يربو على عشرة من الفرنسيين ، وفي عالمنا العربي كان أبرز من تناولها هو توفيق الحكيم ،في مسرحيته “أوديب ملكا” ثم علي أحمد باكثير ، وعلي سالم وغيرهم.
لكنهم جميعا استفادوا من سوفوكليس، حتى أن توفيق الحكيم نفسه يعترف بأنه استفاد منه ، وأنه لم يكن قادرا على الإضافة على سوفوكليس وإنما كان غرضه نقل المسرحية للقارئ العربي.”
دخلت الأسطورة مجال الدراسات النفسية والاجتماعية والإنسانية ،وكانت هي الأساس في تأطير نظرية عقدة أوديب – رغم عدم صحة تلك النظرية لكن أوردها من باب الأمانة العلمية – ومضمونها أن يشتهي الابن أمه استنادا إلى معاشرة أوديب لأمه.
كما كان أوديب لعبة في يد الأحداث؛ إذ تمضي به يمنة ويسرة منذ قبل ولادته إلى أن فقأ عينيه.
من أبرز عناصر المسرح اليوناني ما يعرف بـ”الجوقة” وهي مجموعة من الأصوات لا يظهر أصحابها على خشبة المسرح ، إذ يسمع الجمهور الأصوات فقط، تمثل الجوقة في المسرح اليوناني ما يسمى الآن في العصر الحديث بالرأي العام ،فالجوقة تقف إلى جانب الشعب وتنحاز إليه ، وتردد بعض أقوال الشخصيات أثناء الحوار، وتعلق على بعض الأحداث، لكنها لا تنشئ حوارا.
مما أُخِذ على المسرحية تجسيد بعض مشاهد العنف على المسرح ، فقد اختلف النقاد في ذلك ، فرأى بعضهم أن في ذلك قسوة على الجمهور وخدشًا للذوق العام حين يشاهد القتل والدم أمامه ،بما يتنافى مع هدف أساسي من أهداف المسرح وهو التطهير، ومعناه الحالة التي يصل إليها الجمهور في ختام العرض ، ورأى هؤلاء النقاد أنه يمكن أن تصل أحداث العنف للجمهور عن طريق الإخبار بواسطة إحدى الشخصيات أي فلان انتحر، حرب حدثت …
وهناك فريق آخر يرى إمكانية تجسيد مشاهد العنف على المسرح كما حدث في عدة مسرحيات.
أما مسرحية سوفوكليس فلم يتم فيها تجسيد مشاهد العنف- ما عدا المشهد الذي فقأ فيه أوديب عينيه-إذ يلحظ الجمهور أن انتحار جوكستة وصلهم عبر الصوت وعبرالحوار ، ولم يشاهدوه.
من المعلوم أن الأساطير من الأشياء التي يختزنها العقل الجمعي للشعوب ، وأسطورة أوديب قد خلدت في العقل الجمعي لشعوب العالم كله، بعد أن كانت لدى اليونانيين فقط.
لم تكن أسطورة أوديب رغم ثرائها أن تصل لهذه الشهرة والمعرفة لولا سوفوكليس الذي تجاوز بها المجال الأسطوري إلى المجال الأدبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طارق يسن الطاهر*
من كتابي *مقالات في الأدب والحياة* الجزء الأول
*Tyaa67@gmail.com*