
فاطمه بكري
جازان _ العارضة
في عالم لا ينتهي، حيث تتشابك الأزمان وتتداخل الحواس، تسكن هناك فكرة قد تكون أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. هي فكرة لا يمكن أن تكون مكتوبة بعد، لأنها تتجاوز الكلمات نفسها، وتتعدى كل ما هو مادي أو مرئي. إنها تتعلق بشيء غامض، سائل، مستمر في التغير: الأصداء المفقودة.
ما هي الأصداء المفقودة؟ هل هي أصوات لا تُسمع، أم أن الزمن نفسه يخلق أصداءً لا يمكن للأذن البشرية أن تلتقطها؟ عندما نسير في الحياة، قد نمر بلحظات تبدو لنا وكأنها حدثت من قبل، وكأنها تحمل في طياتها صدى لم يكن له وجود في الماضي. قد نلتقي بشخص ما، فتشعر وكأنك تعرفه منذ أبدٍ بعيد، أو قد تمسك بشيء، وتجد فيه أثراً غير مرئي، ذا طاقة غريبة، وكأنك قد حملته في يدك قبل أن يولد الكون نفسه.
هذه الأصداء المفقودة هي قصص لم تكتب، لا في الكتب ولا في الذكريات، لكنها مع ذلك جزء من نسيج الزمن الذي نعيشه. في كل لحظة، تتردد في المكان أصداء أفكارنا، وقراراتنا، وأحلامنا، حتى وإن لم نكن واعين لها. في كل فكرة نتركها معلقة في الهواء، وفي كل خطوة نخطوها دون أن نلاحظ، هناك صدى بعيد ينتظر أن يُسمع.
لكن ماذا لو كانت هذه الأصداء، أو تلك الأصوات غير المسموعة، هي المفتاح لفهم أعمق للوجود؟ ماذا لو كانت الأصداء هي لغة الكون التي لا يستطيع البشر الوصول إليها؟ ربما، نحن نتنفس في عالم يتكلم بلغة لا نفهمها، ونعيش في أصداء مليئة بالمعاني التي نجهلها.
كل شيء حولنا هو صدى لشيء أكبر، شيء يفوق قدرتنا على الاستيعاب. ربما كانت الأرض نفسها، في حركتها حول الشمس، تصدر أصداء لم نتمكن بعد من التقاطها. وربما كانت النجوم، التي نراها مضيئة في السماء، تخبئ خلف ضوءها أصداءً لم تلتقطها آلاتنا. لكن السؤال الأعمق يبقى: هل يمكننا أن نسمع هذا الصدى؟
إذًا، ربما تكمن الإجابة في صمتنا الداخلي. في اللحظات التي نغرق فيها في الهدوء، حين نختار أن نبتعد عن الضجيج، عندها فقط قد نتمكن من إدراك تلك الأصداء الخفية. قد تكون الأصداء المفقودة ليست سوى مرشدين غير مرئيين يوجهوننا في رحلتنا غير المحسوسة عبر الزمن والمكان.
لقد أصبحنا اليوم محاطين بالصوت والصورة، في عالم مليء بالتقنيات والأدوات التي تحاكي الواقع. ولكن ماذا لو كانت الحقيقة أبسط من ذلك؟ ماذا لو كانت تكمن في الصمت؟ في الفراغ الذي نتخيله خاليًا من كل شيء، في حين أنه مشبع بالأصداء التي لا يسمعها أحد سوانا.
هذه هي الحروف المفقودة، الكلمات التي لم تُكتب بعد، والقصص التي لم تروَ. وهي في النهاية اللغة التي سنتحدث بها يومًا ما، عندما نتمكن أخيرًا من سماع الأصداء التي كانت دومًا موجودة، في كل خطوة نخطوها، وفي كل لحظة نعيشها.