مقالات مجد الوطن

” أوبنهايمر .. حانوتي النعش النووي” 

 

كوكب جميل .. متخم بزخم الجمال في يابسة وماء، يقطنه الإنسان وينهل من خيراته، كنوزه لا تنفد وعجائبه لا تنقضي، من جملة تسخير الكون للمكرم ابن آدم كما شاء المولى عز وجل .

فلم “أوبنهايمر” الذي أخرجه كريستوفر نولان والمأخوذ من بروميثيوس السيرة الذاتية ويلخص لعبة الموت التي قدمها عالم الفيزياء روبرت اوبنهايمر “مثل دوره كيليان مورفي” خلال الحرب العالمية الثانية ضمن مشروع مانهاتن، الفلم يوثق ضمن تسلسل تاريخي ودرامي ولادة تصميم القنبلة الذرية في أمريكا بسرية تامة استغرقت سنوات، ويبين كيف تم انتقاء اليابان عوضا عن ألمانيا لتدشين هذا الإنجاز “العظيم”.

وطوال مدة الفلم وبنات أفكاري ترقص جزعا على أنقاض هذا المجون المتمثل في الشهوة الكبرى لدى البشر والتي تشده لقبضة الطين ألا وهي شهوة السلطة والزعامة والانتصار للذات، ابتلعني الشعور بالخجل من فعائل الإنسان وإصراره على تدمير هذا الكوكب البهي بجهله الذي يلبس ثوب العلم والتفوق العسكري، فالقنبلة الذرية ذروة الاكتشاف لتسخير نواة الذرة ضمن نطاق الفيزياء التي حلمت وأنا يافعة بأن أكون من رواد الاختراع فيها وحمدت ربي أن هجرتها كرها لنتاجها المدمر هذا ، وتجلت عبقرية اوبنهايمر وفريقه في توظيف نواة المادة لإنتاج طاقة تسلسلية مدمرة قد تخفي الكوكب ذاته من الوجود، وتعجبت حنقا من رغبة الفوز الفائرة من بئر الإبادة والتدمير.

حوار الفلم في معظمه تتجلى فيه أنياب الغطرسة العسكرية التي تنهش وقت الحروب ولا تهتم بخنق الحياة وإزهاقها.

وراعني -وكأنه اكتشاف آنيّ- مدى التعامل الخالي من بقايا الرحمة، ووصلت لإجابة السؤال المحير الذي يحلق برأسي ويديره، ونصّه:

“كيف يستطيع الإنسان أن يخمد نفَس أحدهم دون رفة عين، وما الذي يمكن أن يكون أغلى من حياة الإنسان؟؟ “.

والجواب: “الجموح نحو الفوز والانتصار حين يملأ خلايا الأباطرة والطغاة ويسبح في دمهم ركوبا في سفن الحقد والانتقام والعنف حرصا على نفوذ وسيادة ونهب ثروات”.

العالم يسير بخطى ثابتة وفق ضوابط طغاته والراغبين في قيادته ليسوسوا ويسودوا الكوكب بحيث تنحصر الحياة في حياة السيد ليموت العبيد، فالحرب تحلل مبدأ يتيم وفريد ألا هو:

(الحياة مقدسة إن كانت لهم ورخيصة قيمتها رصاصة أو ذرة مشطورة إن كانت لغيرهم!!).

من الحوار المضحك المبكي في الفلم، رهان القائد العسكري بعشرة دولارات فقط على مدى تدمير القنبلة التجريبية وهو ينصح اوبنهايمر بأن يحاول ألا يدمر العالم في اللعبة السخيفة، وتعبير متقن بليغ لصانع القنبلة الذرية اوبنهايمر حين وصف نفسه : “لقد أصبحتُ الموت..مدمِّر العالم”.

ذاك الاوبنهايمر هو الجنّي النووي الذي أخرجه الرئيس ترومن حين فرك مصباح الحرب، فقال شبيك لبيك وأهدى الموت لمدينة يابانية بكاملها.

ما يشعرك بالخزي كون الإنسان بخس الثمن، حين أخذ القائد العسكري يفاضل بين المدن اليابانية لاختيار أحدها لإجراء التجربة الذرية عليها، ويستبعد مدينة يابانية بعينها قضى فيها شهر العسل، وهنا تتجلى قمة البشاعة البشرية المنحرفة عن فطرتها إذ أن الناس مجرد قطع شطرنج وجزيت الأسباب خيرا فمتعة شهر العسل منعت العابث من قتل مدينة عن بكرة أبيها، يا للثمن البخس دراهم معدودة تبقي مدينة أو تخفيها من الخريطة.

وللحق والتاريخ فأوبنهايمر شعر بالذنب وحاول ثني الرئيس الأمريكي ترومن عن قرار التدمير لكن رد ترومن يلخص حقيقة طغيان بعض رجال السياسة وعنف بعض الأنظمة إذ قال مسكتا لضمير أوبي: ” العبرة في القنبلة فيمن أمر برميها لا من صنعها!”

وربما كان محقا بعض الشيء فصانع السلاح لا يؤخذ بذنب من وجهه لضحيته، ومع ذلك فإني أرى كل الأطراف مذنبة ويدها ملوثة بالدماء، فالعلم هنا للأسف قدم وليمة من مدن ميتة على مائدة التسلح النووي، العلم الذي يفترض أن يقدم التحضر والإنجاز وتعمير الأرض لاستمرار الحياة وتيسيرها، هو من يقدم هنا الموت والتدمير وينهي الحياة بضغطة زر،

بئس العلم والنتاج، وفتح الباب للّهاث التسليحي لإنهاء الكوكب.

وصفق العالم بشراسة للجني النووي وبدأ العهد الجديد للكوكب الأزرق حين يزدهر فيه سباق صناعة الموت ولا أحد يجرؤ على توظيفها، إذن لماذا تصرف المليارات على هذا السباق.

عمل سينمائي بارع يجسد جريمة آدم العصر الحديث فيُحزن ويوجع.

يا كوكبي الجميل الفتيّ كم يحزنني تصارع المجرمين من البشر لتحويلك من أزرق متوهج إلى رمادي متفحم، هذا -سلمنا الله-إن ظل هناك رماد بعد القبعة النووية الثالثة.

 

د.فاطمة عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى