للكاتبة صباح فارسي
ــــــــــــــــــــــــ
رواية همهمة المحار صدرت عن دار تشكيل، وقد دخلت القائمة الطويلة لجائزة غسان كنفاني في دورتها الثالثة لعام ٢٠٢٤، وهي الرواية الوحيدة المشاركة من السعودية لهذا العام.
الكاتبة هي الأستاذة صباح حمزة فارسي قاصة وروائية وشاعرة من جدة درست في المدينة المنورة ثم في أمريكا، حاصلة على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة طيبة في المدينة المنورة، ودبلوم في بناء القادة من خلال التغيير من أمريكا. والأستاذة صباح حاضرة بقوة في المشهد الثقافي السعودي والعربي.
–
أتناول هنا رواية استغرقت الروائية في كتابتها أربع سنوات ، وهذا يعني عدة أشياء تميز الكاتبة والرواية:
الإتقان والجودة والمراجعة والتنقيح والتمحيص واحترام القارئ
واحترام الكاتبة نفسها؛ لأنها لا تريد أن تُخرِج عملا على عجل، لا يليق بها، ولا يليق بقرائها.
وهكذا الكتاب المحترمون؛ فقد روي أن آرنست همنغواي كان يكتب واقفاً على مكتبه لساعات طويلة، هذا من إتقانه لعمله.
بدءا نحرر بعض الكلمات الواردة في الرواية حتى نلج بيسر وسهولة لمضمونها، ابتداء من عتبة العنوان:
من أهم وظائف العنوان في النص الأدبي: تحديد هوية النص وإثارة ذهن المتلقي وتشويقه.
عنوان الرواية هو: همهمة المحار وتحليل العنوان نقديا يكون من عدة مستويات هي المستوى المعجمي والدلالي والتركيبي والصوتي.
المستوى المعجمي: همهمة من الفعل همهم، وهو من مضعف الرباعي مثل زلزل ووسوس، وهمهم بمعنى تكلم كلاما خفيا يُسمع ولا يُفهم مقصوده، وهمهمة بالتاء هي المصدر من همهم.
المحار هو نوع من الحيوانات الصدفية المائية، وهو من شعبه الرخويات يعيش في المحيطات والسواحل في المناطق ذات المناخ المعتدل أو الحار، يعيش بلصق صدفاته على صخور البحر، أو أي جسم صلب آخر في قيعان المحيطات والبحار، تعيش معظم أنواع المحار في مياه السواحل الضحلة.
المستوى الدلالي: المحار لا صوت له، لكن صباحا جعلت له صوتا، وإن كان خافتا مثل الهمهمة أو الوشوشة، فهنا انزياح دلالي عن المعنى المعجمي للعنوان حمّلته الكاتبة مضامين ودلالات إضافية.
والمحار – حسب الأساطير – يرمز لدى الفتيات بأنه رفيق الحب والسحر والمجهول والغائب والحظ والغيبيات التي يفتتنّ بها، ويحببن سماع همهمته ويتوقعن منها ما ينتظرن …
المستوى التركيبي: العنوان مركب من كلمتين همهمة المحار، وهما مضاف ومضاف إليه، وإضافة النكرة إلى المعرفة تفيد التعريف.
والعنوان عبارة عن جملة اسمية حذف مبتدؤها، وتقديره هذه، فيكون بذلك العنوان: هذه همهمة المحار، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستمرار.
المستوى الصوتي: تكرار الحروف الحلقية الهاء والحاء يعطي نغما محددا محببا، فهي حروف تتميز بالرخاوة والانفتاح والهمس.
ثم إلى: الدانة وهي الحبَّة، وخاصة حبة اللؤلؤ، ويشيع الاسم بين إناث الخليج العربي، حيث يُستخرج اللؤلؤ، وهناك أحياء وحارات وأماكن باسم الدانة.
ثم: شَذْرة وهي نبذة، فِقرة، مقطع. قطعة
أما عن فكرة الرواية فيبرز هنا سؤال مهم عند تناول أي عمل روائي، وهو:
هل فكرة الرواية جديدة أم مستهلكة؟
لو سعينا للإجابة عن هذا السؤال في رواية همهمة المحار نستطيع القول نعم ولا.
“نعم” لأن الفكرة العامة تطرقت إليها كثير من الروايات.
“لا” لأن صباح أجادت في تشعيب هذه الفكرة لأفكار فرعية متنوعة، وبرعت في تناول تلك الأفكار؛ مما منح الفكرة العامة طرافة وجدة وابتكارا.
حسْبُ الرواية أنها ناقشت – من مضمن ما ناقشت – كثيرا من القضايا التي تعد من المسكوت عنه.
الكاتبة امرأة تكتب بهموم المرأة، ومن المرأة للمرأة، ورغم ذلك الرواية بها من الهم العام الذي يوجّه للرجل أيضا، فـ ” همهمة المحار” عمل أدبي شامل لا يمكن تأطيره في نطاق ضيق.
ولو نظرنا في بناء الرواية الهيكلي أو تقسيماتها، نجد الرواية مقسمة بشكل جذاب وممتع وواع؛ فقد قسمت إلى شَذَرات؛ إذ قامت الشَّذْرة مقام الفصل، وذلك موفق جدا من الكاتبة، وقسمت الرواية إلى شذرات بعدد ثمانية وعشرين شذرة.
العتبة الرئيسة للرواية هي همهمة المحار، ولكل شذرة عتبتها الخاصة بها، أي لكل شذرة عنوان وقضية تتصل مع بعضها؛ لتشكل النسيج العام للرواية، ومن الملاحظ أن عناوين الشذرات كلها مركبة من كلمتين ما عدا الشذرة الرابعة عشرة؛ إذ جاءت من ثلاث كلمات بإضافة حرف جر، وهي: “شواظ من نار” وفيها اقتباس من قوله تعالى: ( يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) في الآية 35 من سورة الرحمن.
بدأت الكاتبة كل شذرة بمقولة لأحد أبطالها، كأنها تأخذ معها القارئ؛ لتعطيه مفاتيح فك الرموز، وتعينه على فهم المضمون دون أن يكون ذلك فاضحا للمعنى أو كاشفا للمحتوى أو قاتلا للتشويق.
وعن الإهداء ودلالاته نجد أن صباح قد أهدت روايتها إلى المحرومين والباحثين عن الانعتاق والانطلاق؛ إذ تقول:
إلى سادة الظل القادمين من رحم الحرمان
الحالمين بالخروج من فخاخ الحياة
ثم تختم إهداءها لهذه الفئات باتحادها معهم؛ حينما تقول:
“أنا مثلكم تائهة أفتقد بوصلة النجاة”
إذن تهدي الرواية لنفسها مِن بين مَن أهدت
ثم تُبرز لنا صباح دلالات عميقة أخرى في تلك العبارة التي اقتبستها من جلال الدين الرومي، وأوردتها في التصدير:
وأعلمُ أنَّ كلَّ نفس ذائقةُ الموت
ولكن ليست كلُّ نفس ذائقةَ الحياة
اقتباس موفق جدا جدا منها، يضيء الطريق للقارئ، ولكنه لا يفضح، إذن ليس تقديما فاضحا للمضمون بقدر ما هو تقديم موحٍ ميسر للقارئ، فلا يزال القارئ شريكا لصباح في المتعة والفهم والوعي والسبر، وسيتكرر دعم صباح لقارئها ومساعدته على الفهم كثيرا في الرواية، وسأتوقف عنده في حينه.
ثم يلي ذلك الاستهلال الذي حشدت فيه كمًّا هائلا من التساؤلات الحيرى التي عصفت بها ذهن القارئ، وأثارت فيه الفضول لعله يجد الإجابة في ثنايا الرواية.
وعن الأحداث وديناميكيتها فقد رتبت الكاتبة أحداثها ترتيبا منطقيا متسلسلا وفقا للتطور الزمني وتدفق السرد، فجاءت الأحداث حية دينمايكية متحركة.
تأتي الروايات عموما في السرد” الحكي” عبر السارد الذاتي ، الراوي المباشر “ضمير المتكلم” أو السارد والراوي العليم” ضمير الغائب” أو السارد المشارك المزدوج ” الذي يراوح بين هذا وذاك.
هنا اختارت صباح السارد العليم؛ إذ روت روايتها عبر “ضمير الغائب”، وهو اختيار ذكي، وفيه قدر من الحرية يَبْعُد بالكاتب عن الأسئلة الوجودية التي تطال الكُتَّاب الذين يكتبون أعمالهم بضمير المتكلم، فيظن القارئ أن الكاتب هو الراوي، فيجعله شخصية من شخصيات الرواية، وقد يلصق به صفات انتزعها من الرواية.
أما عن الشخصيات فأبطال الرواية نساء وقليل من الرجال، وسمَّت بطلاتها أسماء ذات صلة بالبحر، فإن كانت الدانة هي الأصل، فهناك جمانة و لؤلؤة ودرة، وسمت أبطالها الرجال بأسماء عامة: محمد و خضر.
الشخصيات نامية ومتطورة وصانعة للحدث بكل تفاصيله، ونجد حين مقارنة الوصف الخارجي للشخصيات أنّ ذلك يوحي بطبيعة الشخصية ومزاجها وسلوكها واهتماماتها، ويظهر ذلك بجلاء في الشذرة الثالثة حين وصفت الخماسي المكون من ثلاث بنات وصبيين، وفي الشذرة العاشرة في وصف المبروكة.
الموتيف وهو تكرار موقف، حدث قصصي، فكرة أو صورة نمطيّة أو عبارة لغويّة، ووظيفته أن يثير حالة قد تؤدّي إلى التّعرف والكشف أو يكون شاهدًا ورمزًا على وضع معين.
فالموتيف في همهمة المحار هو الموت؛ إذ هناك سيطرة كبرى للموت في الرواية؛ فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع، ولكن صباحا لم تتناول الموت باعتباره حدثا فقط، وإنما بطل من أبطال الرواية؛ حيث حللت الموت، وشرّحت أسبابه فالموت في همهمة المحار هو نتيجة لأسباب عدة تتعلق كلها بالفساد، فكأنها تريد أن تقول: ما مات ميت إلا لأن آخر أفسد.
وجاء الموت بكل صوره: غرقا وطبيعيا وحرقا وانتحارا حتى آخر مقطع في الرواية كان الموت بطله.
المكان فيه اثنية مشتركة بين الواقع والخيال؛إذ يستوعب فضاء السرد كثيرا من الواقعية وقليلا من الخيال المحبب الذي يجعل العقل يهيم، خاصة في شخصية مبروكة التي نسجت حولها الروايات والأساطير، فقيل إنها من الجنيات وقد ماتت ألف مرة، وقيل إن أمها ليست من أهل الدانة لكنها مرت بها وولدتها ودفنت مشيمتها تحت نخلة من نخيل الدانة وتركتها وغادرت، ولو احترقت النخلة أو اقتلعت ستخرج روحها شؤما على أهل الدانة.
كان الضباع يستغلون المبروكة في حاجاتهم المريبة؛ إذ يغدقون عليها المال.
ففي فضاء الرواية المكاني طريقان يتقابلان ويتقاطعان هما المكان الواقعي الحقيقي والمكان الخيالي المفترض.
تناولت صباح البحر، وما يكون فيه من ضحايا بسبب الغرق الذي يهدد الغواص الذي يبحث عن اللؤلؤ، فينجو تارة ويغرق تارة.
المسرح المكاني العام هو البحر، وجزيرة الدانة بالتحديد، وهذا ليس بمستغرب؛ فصباح بنت جدة بنت البحر وجارته، فهي أحق من يكتب عنه بمعرفة ودراية.
حشدت الكاتبة في الرواية كثيرا من الكلمات التي تدخل ضمن الحقول الدلالية للبحر، ومنها إضافة على أسماء الشخصيات لؤلؤة وجمانة ودرة، فهناك كلمات منها: الغواص والنواخذة والسردال والنِّهمة والقلاف والسِيف .. واضطرت مشكورة لتذليل الغامض منها في الهامش.
هنا يبرز سؤال:
ما تأثير إقامة صباح في جدة – حيث البحر- على العنوان والرواية وأحداثها؟
وهل ينبغي لنا أن نُعمِل نظرية موت المؤلف لرولان بارت – التي تقول إنّ قراءة أي نصّ أدبي يجب حصرها في النص نفسه وعدم إقحام شخص المؤلف أو فكره أو ظروفه الاجتماعية أو البيئية-
أم يمكننا الربط بين الرواية والروائية؟
فقد تضافر الزمان والمكان فيما يعرف بزمكان الرواية، وكان كل مكان ملائما لزمانه ولأحداثه.
أبرز ظواهر رواية همهمة المحارهي الثنائيات والتضاد: حب وكره/ خيال واقع / موت وحياة/ الظلام والنور/ الفرح الحزن/ العرب والغرب” حيث أمريكا وتحديدا لوس أنجلوس، وحينما قالت عن درة: كثيرون هم وهي وحدها …
وهذا يفتح الباب لدراسات نقدية لهذه الرواية المتفردة عبر مربع جريماس السيميائي الذي جعل هذا المربع أداةً للتحليل السيميائي لمعرفة التقابل والتضاد في النصوص ونقاط التقاطع فيها.
من أهم عناصر أي عمل روائي الحدث والوصف، فالوصف هو توقف زمن السرد، وإيقاف مجرى الأحداث، والوصف هو رسم بالكلمات، ولابد من تضافر الحدث والوصف، ولابد أن يكون الحدث مشوقا وجاذبا منذ بداية الرواية.
فكانت صباح رسامة مبدعة في هذا الجانب كما سنرى نموذجا بعد قليل من الرواية.
فقد برعت صباح في الإمساك بأطراف عملها وقيادته حسبما تريد ببراعة، فلم يفلت منها عنصر، برعت في الوصف، ولم تغرق فيه على حساب الحدث ، أذكر أن الدكتور حسن النعمي أشاد بالروائي الطيب صالح في أنه كاتب بارع، يصف ولكن الوصف لا يلهيه عن الحدث فيعود إليه، واستشهد الدكتور حسن بمقطع عودة الراوي في موسم الهجرة إلى الشمال من السفر ووصوله لقريته ووصف جَدِّه وغرفة جده وحركة استقبال أهل القرية له، فقد صنع الطيب صالح حدثا وبنى حوله الوصف، فالوصف لا ينفصل عن السرد، ويقول الدكتور حسن: “لا ينبغي أن نقدم صفحات وصفية خالية من الحدث”.
هنا صباح نجحت في الوصف، ونجحت بعد الوصف في العودة إلى الحدث ببراعة، فقد ورد في مشهد من الشذرة الحادية عشرة:
“فلطالما تذكرتْ لؤلؤة جمانة وهي تزورهم في الخراب المتهالك،
حيث جلست أم لؤلؤة وحولها صغارها الأربعة في سكن مهجور، تنزل ما لا يقل عن سبع سلالم متهالكة لتصل لساحة البيت المتداعي حيث يتسلل الضوء من سقف خائر، حجرة من اللبِن تتصل بغرف، رائحة العفن وغبار الجدار المتهالك ينفذ للخياشيم. جلست أم لؤلؤة وهي ترتدي ملابس متشققة تُظهر ساقيها وحولها إخوة لؤلؤة، رضيعها يستجدي الحياة من ضريع قحط، من أم لم تتزود من الزاد لعدة ليال”
أما الحوار في همهمة المحار بحيويته وثرائه، فكان الحوار داعما للسرد؛ إذ شكَّل معه ثنائية بديعة خدمت الأحداث.
وجاءت لغة الحوار التي أنطقت بها صباح شخصياتها باللغة الفصحى وكان متقنا ومنطقيا ومقنعا؛ لأنه بسيط وواضح وغير معقد، فكان يشبه الشخصيات التي تتكلم به.
وورد في بعض الحوارات استخدام اللغة الإنجليزية، وجاء في إطار الحوار المنطقي أيضا؛ لأن المتحدثة زميلة درة في الشقة في لوس أنجلوس.
وقريبا من الحوار وظفت صباح الرسائل بشكل مميز؛ مما دفع مجرى الأحداث، فتبودلت الرسائل بين الأبطال باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات” أنستغرام وسناب” ، وهنا استفادت من تكنيك حديث ومعاصر أتيح لكتاب الفن القصصي.
كذلك وظفت تقنية المونولوج الداخلي، وهو ذلك الحوار أو الصوت الداخلي الذي يكون داخل رأس الشخصية؛ حيث تجعلك “تَسمع” نفسك تتحدث في رأسك ، وذلك موجود في الرواية بكثرة ومثال له:
في الشذرة التاسعة عشرة:
لماذا لم تنتصري للؤلؤة، لماذا سمحتِ لها بالمكوث في الهاوية؟ إلى آخر هذا المقطع الذي تحدثت فيه لؤلؤة لنفسها، وسألتها عدة أسئلة تعجبية.
كذلك وظفت الأسئلة الحيرى والتعجبية على ألسنة الشخصيات أسئلة تتجه داخليا عبر المونولوج الداخلي، وأخرى تتجه خارجيا لتوجه لشخصية أخرى. ومن ذلك:
“ماذا لو وجد كل منا أغنيته وجرحه الدفين؟ هل يتجاهلها ويمشي مبتعدا، ينأى بنفسه أن يرتبط بقيدها، يجعلها تتكسر تحت قدميه؟”
لو عرف الكاتب لماذا يكتب؟ لسهل لنا أمورا كثيرة نحن المتلقين
أذكر هنا عبارتين لصباح كتبتهما ضمن ما كتبت في حساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي يتبين فيهما -كما في غيرهما- نضج ووعي وإدارك وسعة أفق لدى كاتبتنا
تقول في الأولى:
أكتب لأستعيد شهقة ضحكتي بين جدران الورق
وتقول في الأخرى:
“ الكتابة” هي أفضل ما حدث لي على الإطلاق، أن تكتب يعني أن تحرر ذاتك وتنعتق نحو فضاء أكثر رحابة.
الثيمة تعطي الأحداث معنى، فمغزى العمل القصصي هو الثيمة، الثيمة هي قلب القصة وهي الرسالة الضمنية التي يريد الكاتب إيصالها للمتلقي.
والثيمة في همهمة المحار هي الانعتاق والرفض، وعدم الخنوع للواقع حينما يكون مزريا، هي محاربة الأمراض القاتلة التي تحبط الطموح وتعيق التقدم، الثيمة في همهمة المحار هي رفض الفقر وإباء الظلم والتمرد على الاستغلال بكل أنواعه العقلي والجسدي وغيرهما، وتعرية الضباع، وبيان خبثهم وسوء استغلال الأنثى.
تضج الرواية بصور التناقض الحاد في الأحداث وتكثر فيها المفارقات التصويرية في المواقف، ومن ذلك قول الكاتب عن أحد الضباع:
“جاء الرجل وهو يلبس ثوبا ويعتمر غترة بيضاء، ولكنه لم يكن يرتدي شيئا من الفضيلة”.
ومن المفارقات أن بطلات الرواية الثلاثة عانين من أقرب الأقربين الذين كان ينبغي أن يكونوا عونا وسندا وحماية لهن: جمانة من زوجها، درة من والدها، لؤلؤة من أمها…
واختيار كلمة الضباع وصفا لهؤلاء اختيار موفق جدا من الكاتبة وفيه رمزية عالية جدا، إذا اصطحبنا سمات حيوان الضبع؛ فهو من الحيوانات المكروهة؛ لأنها تعتاش على أكل الجِيَّف وبقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى، وحينما يفترس الضبع يأكل فريسته وهي حية عكس بقية المفترسات. وصفهم أرسطو بأنهم “مولعون للغاية باللحوم المتعفنة”. وقيل عن سوء طبعها الكثير.
يتضح جليا لقارئ هذه الرواية أن الكاتبة أعدت نفسها تماما قبل البدء في كتابة روايتها هذه، يبدو تماما أنها قرأت كثيرا من الكتب في شتى أنواع المعرفة: الفلسفة وعلم النفس والتاريخ والأدب… ونهلت من مخزونها الثقافي الثري.
نهاية همهمة المحار كانت مؤثرة مؤلمة موجعة سيطر عليها الموت، هنا موت درة، وذلك يجعل القارئ يتعاطف مع الشخصية، ويؤمن بقدرة الكاتبة على تصوير مشهد الموت الأخير في الرواية، وتصوير أثر ذلك على الشخصيات المحيطة “خضر نموذجا”، ويبحث عن الكاتبة مرة أخرى في رواية أخرى؛ ليقرأ لها.
قال آرنست همنجواي:
إني أهتم بنهايات رواياتي أكثر مما أهتم ببداياتها؛ لأن النهاية هي آخر عهدك بالقارئ، فإن أجدت صوغ النهاية فسيبحث عنك القارئ ويقرأ لك مرة أخرى.
ويروى أنه أعاد كتابة نهاية روايته “وداعاً للسلاح” سبعاً وأربعين مرة حتى رضي عنها.
اللغة هي الوعاء الذي يحمل الأفكار والمضامين، وهي أحد أركان أي عمل أدبي، فلو جاءت اللغة ضعيفة مهما كان المضمون قويا أو الفكرة موفقة فكأننا أمام شخص وسيم يرتدي ملابس رثة، بالتأكيد ستُنقص من قدر وسامته، كما يُنقص ضعف اللغة من قيمة فكرة العمل الأدبي.
تمكنت صباح الشاعرة من دعم صباح الروائية باقتدار بالغ من توظيف اللغة؛ لتصبح قادرة على التعبير عن أفكارها بتميز بالغ، فلغتها شعرية رقيقة موحية ذات ظلال وأبعاد واحتمالات.
سلامة اللغة -إلى حد كبير- وقلة الهنات، ودقة وضع علامات الترقيم؛ مما أعطى الجمل معانيها المقصودة، ومنح العبارات دلالاتها المكتملة رغم طول العمل الواقع في مئتين وثلاث وعشرين صفحة.
التناص القرآني موجود بكثرة في الرواية؛ مما يعمِّق من جمال لغتها، ويبرز إدراك صباح لآي القرآن ودقة توظيفه، وذلك في مواضع كثيرة، ذكرتُ منها موضعا سابقا في ” شواظ من نار” عنوان الشذرة الرابعة عشرة، ومنه: اركضي برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، كما ورد في الشذرة الثامنة عشرة، وغيره كثير.
هناك عبارات شعرية قاربت الشعر أكثر من السرد في رقتها واكتنازها وجمالها وإيحاءاتها وظلالها، أذكر بعضا منها:
يحنو المطر على شعث جدبهم
تطهر شواطئها من عقوق البشر
تستعذب الذوبان في روحها
وأخرى تحمل من الرطب حصرمه ومن الجِمَّار عجافه
أخشابها الصلدة تخفي هموم ساكني الدور
تدلق كوب القهوة على عجالة في جوفها، ففي مدينة الزيف الوقت لا يحابي أَحدًا
تكنس المدينة المتسخة بحذائها الرياضي
ضجت عيناها الصغيرتان بالحنان وتخايل شعرها الطويل مسدلا على خدها الأيسر.
ومن باب الأمانة العلمية فقد رصدتُ بعض الهنات اللغوية في الرواية، وهي قليلة جدا، ولا تتحملها الكاتبة، وإنما يتحملها الطابِع أو دار النشر؛ لأن الكاتب حين يكتب يتدفق شعوريا، ولا يريد إعاقة ذلك التدفق بالتدقيق والمراجعة، ومن ذلك:
في الشذرة الثالثة ورد قولها: ” من قال أني أريد أن أكبر …” والمعلوم أن همزة “إنّ” بعد القول تكون مكسورة: ومنه قوله تعالى: ( قال إني عبدالله …) مريم 30
كذلك خطأ في صياغة العدد “سبعة” – في الشذرة الحادية عشرة- حينما كتبت: سبع سلالم بتذكير العدد سبعة، والمعروف أن العدد سبعة يخالف معدوده ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) الحاقة 7 ، والمعدود هنا سلالم ومفردها سلم وهو مذكر، والصحيح أن تقول سبعة سلالم.
هناك كلمة حقها النصب؛ لأنها مفعول به، لكنها لم تنصب، وذلك في الشذرة السادسة، حين قالت الكاتبة عن خضر، وهو يعزف: “والمارُّون لا يعيرونه انتباه”، فالصحيح: انتباها؛ لأنها مفعول به ثانٍ.
أرجو معالجة تلك الهنات في الطبعات اللاحقة، فيقيني أن الرواية ستطبع مرات ومرات؛ لما تحمله من ثراء وقيمة ومتعة وجمال.
يظل المتلقي منجذبا ومشدوها وفاقدا للإرادة، وهو يقرأ هذه الرواية، بمعنى أنه لا يستطيع تركها قبل أن يكملها؛ لبراعة السرد، ورقة الحوار، وجمال اللغة، وحسن هندسة الرواية، وإحكام حبكتها الدرامية التي لا تدع الحدث حتى يُسلم القارئ لحدث آخر، وجودة البناء القصصي المتداعي المتسلسل بانسيابية عالية جدا.
هذه وقفات تأملية حول رواية همهمة المحار، فهي رواية مدهشة، لكاتبة مبدعة، هنيئا للساحة الثقافية بالأستاذة الروائية الكبيرة صباح فارسي
ومهما تناول المتناولون “همهمة المحار” فسيبقى في الصدر كلام لم يكتب، وفي النفس أشياء لم تقل.
ـــــــــــ
طارق يسن الطاهر
أديب سوداني