ــــــــــــــــــــــــــ
كل ظاهرة من الظواهر الإنسانية – حتى يُكتب لها الخلود والاستمرارية- تحتاج إلى ما يدعم وجودها، ويؤكد بقاءها، من خصائص متنوعة، ومميزات متعددة، تنفرد بها عن غيرها.
فاللغة تعد كائنا حيا، يولد وينمو وربما يموت ، فكم من اللغات اندثرت وماتت! لكن الله أراد للغة العربية غير ذلك، حينما قضى بإنزال القرآن الكريم بها، فالقرآن كُتب له الخلود بأمر الله” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” الحجر9، وحفِظ الله اللغة -ضمنا- بحفظ القرآن.
الثامن عشر من ديسمبر، هو اليوم العالمي للغة العربية الذي خصصته الأمم المتحدة بمبادرة من اليونسكو للاحتفاء باللغة العربية.
ينبغي أن نحتفي باللغة العربية كل لحظة، ولكن تخصيص يوم للاحتفاء يعيد للغة بريقها الذي خفت بسبب تسرب اللغات الأخرى إلى الألسن ، و يُرجِع للغة بهاءها الذي بهت بفعل ضعف أبنائها في معرفتها ، وزهد بعضهم فيها ولهثهم وراء اللغات الأخرى.
بقيت اللغة العربية صامدة كل تلك القرون، وستظل كذلك، لعدة عوامل، أهمها وأقواها العامل الديني سابق الذكر، ورحم الله شوقي حين مجّد اللغة قائلا:
إن الذي ملأ اللغات محاسنا جعل الجمال وسره في الضاد
هناك عدد من المميزات التي انفردت بها اللغة العربية وكان لها الدور في استمرارها لغة حية، ومنها:
الاشتقاق: ومعناه توليد كلمات مختلفة من جذر لغوي واحد ، ومثال لذلك:
الجذر اللغوي “ك.ت.ب” نأتي منه بكلمات كثيرة منها : كتاب-مكتب-مكتوب-كاتب مكتبة ، كتبت وكتبها ..
كذلك الترادف: وهو وجود كلمات كثيرة تشير إلى معنى واحد مثل الصحراء هي البيداء والمفازة والقفار والفلاة …..
كما تنفرد اللغة العربية بالتشكيل – وهو وضع الحركات- الذي يميزها عن غيرها من اللغات ، فالحركات تؤثر على المعاني، وتغيّر المقصود ،وتنقله إلى مجال آخر، ومن ذلك : السَّفَر بمعنى الارتحال ، السِّفْر بمعنى الكتاب ، (كمثل الحمار يحمل أسفارا ) السَّفْر وهم المسافرون : فقد ورد عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه: يا أهلَ مكَّةَ، أَتِمُّوا صلاتَكم؛ فإنَّا قومٌ سَفْرٌ.
ومنه قول أبي تمام في رثاء محمد بن حميد الطوسي:
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السَّفَرِ السَّفْرُ
كما تتميز اللغة بتوسيع المعنى وتضييق المعنى؛ لأن العرب كانوا يتحدثون العربية قبل الإسلام ، فجاء الإسلام وأبقى معاني بعض الكلمات على ما هي عليه، ووسّع بعض المعاني، وضيق دلالات أخرى ، مثلا : الصلاة كانت تعنى الدعاء، فصارت تلك العبادة المخصوصة ، كذلك الجنة كانت تعنى البستان، فأصبحت تدل على الدار التي أعدها الله للمتقين. واستخدمها القرآن في المعنيين : (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه…) الكهف 35 ، ( ادخلوا الجنة …) الأعراف 49
كذلك تتميز اللغة بالثراء في الأسماء للمسمى الواحد مع اختلاف حالاته ، مثلا الطعام يختلف اسمه حسب المناسبة التي يقدم فيها ؛ فطعام الزواج وليمة، وطعام العزاء وضيمة ،وطعام الفراغ من البناء وكيرة، وطعام الدعوة مأدبة ، وهكذا …..
كذلك تتميز اللغة بالاختصار في الأسماء، فهي تجمع اسمين في لفظ واحد : مثل الجديدان هما الليل والنهار، الزهراوان :البقرة وآل عمران كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ…” والسبطان : الحسن والحسين رضي الله عنهما ، والبردان : الفجر والعصر ، فقد ورد في الحديث :” من صلى البردين دخل الجنة.” ، والثقلان هما الجن والإنس “سنفرغ لكم أيها الثقلان”الرحمن31
كما أن هناك كلمات في اللغة العربية تأتي بمعنيين متضادين، وهو ما يسمى بالأضداد، مثل الجون تعني الأبيض والأسود، ومنه المولى تعني السيد والعبد، وكلمة وراء تعني أمام وخلف “قيل ارجعوا وراءكم… ” الحديد 13 أي خلفكم، “من ورائه جهنم” إبراهيم 16 أي أمامه.
ومظاهر الجمال في اللغة لا تعد ولا تحصى، في جميع جوانبها، وفي كل علومها سواء علوم البلاغة أو علوم اللغة أو غير ذلك ، لكنَّ كثيرا من أبنائها يسيئون إليها من حيث لا يقصدون، وذلك من خلال إيراد مقاطع ورسائل تحوي كلمات متقعرة وعبارات معقدة وأبيات شعر منحولة ومخترعة، ويقولون هذه هي اللغة العربية، وذلك أمر ينفِّر الناشئة من تعلمها؛ ظنًّا منهم أنها كما أورد هؤلاء.
فاللغة التي حوت كلام الله لا يمكن أن تعجز عن احتواء المستجدات من مخترعات وغيرها، وجزى الله خيرا حافظ إبراهيم حين أورد على لسانها:
وسعتُ كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أســــــــماء لمخترعـات؟!
فهناك ظواهر تعد أكبر دليل على انفتاح العربية، وكونها لغة حية تأخذ وتعطي، وكونها لغة قادرة على الاستيعاب، من ذلك التعريب والتوليد والدخيل …
تعد اللغة العربية من أقدم اللغات السامية في العالم، ويتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة حول العالم كلغة أمّ، إضافة إلى بعض المسلمين غير العرب الذين يتحدثون بها كلغة ثانية ، وهي من بين اللغات الأربع الأكثر استخداما في الإنترنت.
في مقارنة بين عدد كلمات أربع لغات حية نجد أن اللغة العربية تتفوق وتنفرد دون منافسة :
اللغة العربية أكثر من 12 مليون كلمة ، الإنجليزية 600 ألف كلمة، الفرنسية 150 ألف كلمة، الروسية 130 ألف كلمة.
وسترى عجبا لو علمت أن في العربية للأسد زهاء خمس مئة اسم ،كما ذكر ابن خالويه، منها ليث وغضنفر وهزبر وأسامة … وللسيف ما يقارب ثلاث مئة اسم، منها حسام، مهند …
وأختم بهذا القول المأثور: تعلموا العربية، فإنها تثبت العقل، وتزيد في المروءة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طارق يسن الطاهر
Tyaa67@gmail.com**