سورة القدر سورة مدنية في قول أكثر المفسرين
وذكر أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وهي خمس آيات،
قوله تعالى :
(إنا أنزلناه في ليلة القدر)
إنا أنزلناه يعني القرآن ، المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر . وقيل : بل نزل به جبريل – عليه السلام – جملة واحدة في ليلة القدر ، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، إلى بيت العزة ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان جبريل ينزله على النبي – صلى الله عليه وسلم – نجوما نجوما أي متفرقا . وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، عن ابن عباس قال : نزل القرآن في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، في ليلة مباركة ، جملة واحدة من عند الله ، من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة،
وما أدراك ما ليلة القدر قال : ليلة الحكم . والمعنى ليلة التقدير ; سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره . ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل عليهم السلام .
وعن ابن عباس قال : يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت ، حتى الحج فيكتب حجاج بيت الله تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء أبائهم ، ما يغادر منهم أحد ، ولا يزاد فيهم .
وعن ابن عباس أيضا : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر .
وقيل : إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها ، من قولهم : لفلان قدر ; أي شرف ومنزلة . وقيل : سميت بذلك لأن للطاعات فيها قدرا عظيما ، وثوابا جزيلا .
و قيل سميت بذلك لأن من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها .
وقيل : سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر ، على رسول ذي قدر ، على أمة ذات قدر .
وقيل : لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر . وقيل : لأن الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة . وقال سهل : سميت بذلك لأن الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين . وقال : الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ; كقوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه أي ضيق.
ثم عظم الله شأن ليلة القدر الذي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها فقال وما أدراك ما ليلة القدر.
ليلة القدر خير من ألف شهر بين فضلها وعظمها . وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر .
وقال كثير من المفسرين : أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر . وقيل : عنى بألف شهر جميع الدهر، ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرةأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ” .
قوله تعالى 🙁 تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) :
تنزل الملائكة أي تهبط من كل سماء ، ومن سدرة المنتهى ; ومسكن جبريل على وسطها . فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس ، إلى وقت طلوع الفجر ; فذلك قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم أي جبريل – عليه السلام – وقيل في تفسير الروح أيضا أنها :
١- أن الروح صنف من الملائكة ، جعلوا حفظة على سائرهم ، وأن الملائكة لا يرونهم ، كما لا نرى نحن الملائكة .
٢- هم أشرف الملائكة . وأقربهم من الله تعالى . ٣-قيل : إنهم جند من جند الله – عز وجل – من غير الملائكة .
٤- قيل هم صنف من خلق الله يأكلون الطعام ، ولهم أيد وأرجل ; وليسوا ملائكة .
٥- قيل أيضا : الروح خلق عظيم يقوم صفا ، والملائكة كلهم صفا .
٦- وقيل : الروح الرحمة ينزل بها جبريل – عليه السلام – مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها ; دليله : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ، أي بالرحمة فيها أي في ليلة القدر بإذن ربهم أي بأمره .
من كل أمر أي بكل أمر.
وعن أنس قال : قال النبي – صلى الله عليه وسلم – :” إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة ، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى” .
قوله تعالى : (سلام هي حتى مطلع الفجر) قيل : إن تمام الكلام من كل أمر ثم قال سلام أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها، حتى مطلع الفجر أي إلى طلوع الفجر، وقيل : لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل : أي هي سلام، أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة فهي ليلة سالمة ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى .
وهناك أحاديث و روايات تشير إلى إمكانية أن تكون ليلة الحادي و العشرين أو الثالث و العشرين أو الخامس و العشرين أو التاسع و العشرين و الله أعلم.
وقد اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر، والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين ; لحديث زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن أخاك عبد الله بن مسعود يقول : ( من يقم الحول يصب ليلة القدر . فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ; ولكنه أراد ألا يتكل الناس ; ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين . قال قلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالآية التي أخبرنا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها ) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح.
وقالت عائشة – رضي الله عنها – : قلت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : ( قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
القدر أي تقدير كل قدر للإنسان و الحياة وقد نزل فيها أشرف الكتب و أعظمها، وهي ليلة لم تعلن بشكل واضح حتى يعلمنا الله معنى الاجتهاد في العبادة وبذل الجهد في التعبد و الذكر و تعلق القلب بالله، وفي هذا منحة لطيفة حتى يتجدد الأمل طوال العشر الأواخر في كل ليلة وفي ذات الوقت يزيد رصيد المجتهد أجرا لمن قام ليلة بعد ليلة إيمانا و احتسابا.
حب الله والبحث عن رضاه لايتعلق باقتناص فرص تحديد الأوقات المباركة فحسب بل يتعلق بتدريب هذا القلب على التقرب و التذلل إلى الله و زيادة مساحة الاجتهاد في العمل يوما بعد يوم ليس في رمضان فحسب بل لسائر العمر و هذا هو الدرس من إخفاء وقتها بالتحديد.
نسأل الله نفحات عبق هذه الليلة الكريمة أن يشملنا و يهبنا الله برحمته فضائلها.
د. فاطمة عاشور