مقالات مجد الوطن

27 روايتي: شرارة وبناتها حرائق!!

 

بدأ الصباح يحط مهامه الحياتية المنوطة على عاتق كل مكلف، وعندما شرعت (قناعة) ترتقي درجتي الباص وبجانبها بنت جيرانهم زميلتها (أحلام) سمعت صوت يقول لها: “حظًا موفقًا قنوعة”، أزعجها الصوت حين هاجمها ومع هذا لم يعكر صفو مزاجها، أخذت نفسًا عميقًا واستمسكت بعروة هدوءها. تقدمتا وجلستا على المقعد الخلفي، بصوت خافت، وبوضوح مريح قالت أحلام لها: “لابد من انه الحب يدعمك ويعزز فيك الطاقة الايجابية”. وعلى الفور تغيرت نبرة صوت (قناعة) وكلماتها المنطوقة قبل أن تسن في مراجعة صفحة هامة مؤكد أن تكون أول سؤال في الامتحان: “حبكما نابي أفعى أنتِ وهذا العقعق، كي يغيب صوته من شوارع المدينة ويطرد من رأسي إلى أخر الحياة”. في النهاية فهمت (أحلام) أن ردًا كهذا من المفيد له التزام الصمت.
مازالت فترة الشروق توزع الكائنات حسب تيسير اقدارها، غادرت الباصات والمركبات بحمولاتها كلًا لوجهتها، كما راح المقاول والعمال في اتجاه المنطقة التي كانت جرداء ومهجورة وانتشروا فيها كالنحل لإكمال البناء الخر ساني على حسب المخطط والمواصفات المعدة مسبقًا من قبل المهندس الإنشائي.
في المساحة الخلفية للفناء كانت تتكوم بعض المعدات وبعضها مرصوص على مقربة منها ك(الألواح الخشبية-الطوب- البلوك‐ الحديد والأسمنت وغيرها) جميعها سينال نصيبه من الاستعمال. كان فريق العمل نشيط ومتكاتف، فكلما جد جديد كان يطيب لهم أن يأخذوا استشارة من المالكة تلك المرأة الوافدة من البؤرة البعيدة للغموض.

بعد يوم دراسي شاق، نزلت قناعة من درجتي الباص إلى ناصية الشارع وخلفها زميلتها بنت جيرانهم أحلام، وقبل أن يتفرقا وكل واحدة تدخل إلى بيت ذويها، رأتا العم (المنصدم) يجلس على كنبة قديمة ممزقة القماش تركت أمام -البقالة- دكان صغير للخدمات السلعية في داخل الحي، فإذ هو يقول لقناعة مستفسرًا عن كيفية امتحانها: “قنوعة طمئني قلبي كيف كان اختبارك؟” ردت أحلام ضاحكة: “طمئن قلبك وأخبره لقد كان سهلًا للغاية؟”، هكذا حلت عليه السكينة بعد أن اجزلت أحلام بإجابتها. لقد افسدا على نفس قناعة بهجة الحل الصحيح، مشت إلى أن بلغت جرس بيتهم، ضغطته ضغطة طويلة، ثم طرقت الباب بقوة كالمعتاد، عندما يحدث أمرًا يضايقها.

وفجأة كانت أمها تقف في وسط حجرتها: “ما بك؟”
شعرت قناعة أن الجرأة والنطق بالحقيقة لا تؤتي أكلها كل حين، وبفم مفعم بالابتسام، قالت لها:
– ببساطة يا أمي الحبيبة لا شيء.. بيد أنني لا أستطيع أن أراوغ أو أعبث مع نية الجوع الجادة، كان عليَّ أن أقبل الدعوة دون احتيال أو انفعال.. هيا بنا إلى المطبخ هناك فقط سنشبع ونرتوي.
في المطبخ وقبل أن تقعد (قناعة) على كرسي المائدة نظرت إليها فإذا بشيء ينقصها، اتصلت على جارتها وزميلتها (أحلام)، فقد كانت تربط بينهما صداقة متينة، تدعوها كي تحضر لتناول وجبة الغذاء معها، فقناعة تعلم عن موعد غذاء بيتهم وهو في تمام ساعة صراخ بطن والدها الأمر الناهي، والذي عادة ما يكون بعد صلاة الظهر مباشرة، وأمها لا ترفض له طلب دائمة ملبية النداء، فهو أهم أولوياتها بل على رأسها، فعند أول صرخة تترس فمه بما لذ وطاب مما سقطته في التنور أو التقطته من قدر فارت على مركب.
كان رد (أحلام) ردًا تراجيديًا يفيض ابًا وكرامة: “لا شكرًا انني شبعانة.. أصلًا أنا ممددة على الفراش وأوشكت أن أخلد للنوم”. في منتصف ردها ناولت (قناعة) أمها الهاتف النقال ومسار صوته الاثيري على المكبر، وطلبت الأخيرة من (أحلام) أن تحضر بسرعة قبل أن يبرد الأكل، لم تجد (أحلام) لغة تعبيرية ملائمة تعبر بها عن اعتذارها غير كلمات مثل هذيان المحمومين أضحكت (قناعة) عليها.
استنبطت أم قناعة من الحدث الذي حدث وهو عدم حضور أحلام على غير المألوف، أن الأمر الذي أغضب ابنتها في معية صديقتها. خضعت (أحلام) للأمر الصادر من أم قناعة، فكيف لها أن تجرؤ على الرفض وخرق قوانين الخالة أم قناعة؟
قدمت (أحلام) على أمها تطلب السماح لها أن تذهب إلى بيت قناعة معللة سبب الذهاب إليها أنها تريد أن تذاكر معها، ضمت أمها أصابع يدها مثل وردة جورية مغلقة وأشارت عدة مرات إلى فمها المفتوح كأنها ترمي فيه لقيمات، ثم قالت لها: “رايحة تعبين بطنك.. روحي”. وقع الحرج على أحلام، افتعلت ابتسامة وهي تتذوق مرارة الجرح وتبتلع غصتها كي لا تبكي، ثم ولت ولم تعقب.
انتظرت (قناعة) (أحلام) في مدخل البيت وفورًا دخلت (أحلام) في زاويته واستدارت كي تمسح قطرات الدمع العالقة في محجريها بمنديل ورقي قبل أن تسيل على وجنتيها أو تسقط على الأرض ثم فتحت حنفية خزان الماء وغسلت وجهها الطويل، وهي تقول لقناعة: “لم يجرحني علقمها، فأنا اعرف المغزى من ملاحظاتها القاسية التي ترميني بها، أنها تحبني أنا ابنتها الطيبة، وهي تريد لي الخير وتهمها مصلحتي”.
صرخت (قناعة):
– أغلقي صنبور الماء سيفرغ البرميل ولن نجد قطرة نستنفع بها غير دموعك الجافة.
ضحكت (أحلام) وضحكت (قناعة) ودخلتا صوب المطبخ. وهناك سألت أم قناعة عن حال أم أحلام، وردت (أحلام) عليها: ” بخير ولله الحمد”، وأثناء تناولهن للغذاء تحدثت أم قناعة عن أمها قائلة لها: “لا يوجد أم كأمك طيبة وصبورة جدًا، منذ تجاورنا لم تتوقف عن فعل الأشياء التي تجود بها نفسها للناس، فماذا كانت النتيجة؟ غير أن الكل يحبها وملتف حولها، على الرغم من أن الكثيرات لا يدفعن لها مقابل كدها وقطرات عرقها وهي لا تشكو ولا تتظلم فقط تقابلهن بابتسامة محب”.
قالت (قناعة):
– لكن هذا حرام ويسبب ضغوطات لخالة عيشة تؤثر عليها وعلى المحيطين بها في أسرتها.
– يا ابنتي الدنيا تحتاج إلى الصبر، وهؤلاء النسوة يعرفن إنه حرام عليهن ولا يجهلهن التفريق بين الحلال والحرام، وتذكرا انتما الاثنتين “لا أحد يعلم المتعلم وأن قال إنه ناسي”.
سُرت أحلام بما سمعت عن أمها وفتحت شهيتها على الآخر ولم تود أن تغلقها من أجل أن تسمع أحاديث أكثر عن سيرة أمها الذاتية. أما (قناعة) فقد اكتفت واتجهت صوب غرفتها، وهناك بدأت تمارس هوايتها المفضلة، الكتابة. “لم أعد أطيق سماع كلمة اطراء واحدة عنها. هذا شيء طبيعي جدًا؛ لأن الحقيقة أعرفها وهي الآن تسير عكس مفهومي لها. بالإضافة إلى ذلك، الخالة عيشة لا يهمها مشاعر أحدًا. قبل قليل أطعمت ابنتها حفنة من الكلمات المسمومة فارضة عليها أن تنفذ تقلبها وتلويها بعيدًا عنها. أما النساء اللواتي هن مثل أمي، اللواتي فعلن الكثير وخاطرن بالكثير من أجلها، ما هن إلا متاع حياتها الدنيا تستفيد منه حتى تبقى قوية. ولأنها الوحيدة التي تطحن في الحي فإنهن يعتقدن أنها على نياتها و”درويشة”، وهي بهذا الطحن تطحن كل من أرادت تمزيقها بعد الحديث عنها”.
الروح/ صفية باسودان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى