✍🏻 عائشة بنت حامد الرشيدى
ما كان لأحلك الظروف وقساوة العيش أن تنسي طفلًا مسقط رأسه ومرتع طفولته، للوطن حقول مغناطيسية تجذبه إليه وإن طالت به المسافات.
عبد العزيز بن عبد الرحمن، الشاب الذي ارتحل مع والده إلى الكويت وعيناه تلتفت إلى أرض أجداده، يهيم بها هوًى وحنينًا، لم يجُل في خلدِهِ أن هذه الأرض ستزخر بربيع حُكمه، وينابيع فطنته، وحنكة سياسته، لكن المؤكد أن عزيمته كجبلٍ أشم لا تقوى عليه المعاول.
استطاع في محاولته الأولى الدخول بفرقته للرياض، ومحاصرة حامية ابن رشيد، لولا الأمر الذي أتاه من والده بالعودة. لقد سمع أصوات المنادين لمبايعته، وتردد الصدى في مسامعه أثناء العودة، وكأنه أخذ بذاك العهد أن يتمه ويلبي النداء، وكانت لهذه المحاولة أن تجعله يدرس مواطن القوة والضعف، ويرسم المسارات الصحيحة التي لا تعيقها العراقيل.
أخذ بذاك العهد وعاود الكرّة، متسلحًا بالإيمان، وأنْ ليس للوليد إلا الحِضنُ الذي رعاه، ونسج مع خيوط الفجر شعاع الانتصار، ليبدد حِلكة الظلام، ولتصدح الرياض بأصوات أهاليها مرددة: “الحكم لله ثم لعبد العزيز” لتقيم بهذا عرسًا تاريخيًّا امتد لــ٩٤ عامًا.
ما كان لهذا الفتح، ولا لهذا التوحيد، أن يكون حاصلًا بسهولة، ولا وليدَ الصدفة، وإنما نتيجةً لروحٍ تجرعت المرارة حتى يحلو حاضر بلادها ومستقبله، كل ندبة في جسده تحكي بطولات عظيمة، أبت أن تقف عند أول هزيمة، بل وجّهت السهام حتى أصابت الهدف. هو العزوة والمعزي وعزيز المنال، أحدُّ من نظر طائر العقاب في تحديد فرائسه دون تردد أو خطأ، يحلق شامخًا في سماء شبه الجزيرة العربية، إلى أن زاح الصريم، وتراكم الغيم، وجادت منه الديم، وارتوت أرضٌ من الشتاتِ أجدبت، وأينعت ثمارًا من الحرب أُعطبت.
شكّل بهذا التوحيد لوحةً فنيةً يعز نظيرها، حيث الرمال العسجدية في نجدها، والخمائل السندسية في جنوبها، وجنة النخيل والزيتون في شمالها، والجبال الشامخة بمجدها، ثم تنحني تواضعًا بين السهول والأودية، وفي الغرب أجلُّ بقعتين، بقعة من ذهب، وأخرى من لجين، وفي الشرق تمتزج الزرقتان: صفحة الماء، وفسحة السماء. استطاع بهذا التنوع البديع أن يمزج بين الطبيعة والحضارة، وأن يجعل مملكته تحمل المقومات القوية والمؤثرة، لدولة حاضرة قادرة على النماء والبناء.
امتدت تلك الصفات النبيلة والمكانة الجليلة في دم أبنائه وأحفاده وشعبه بأكمله، قادة وشعب لا يحتفظون بأحلامهم في خزنة المستحيل، ولا يعرفون للمحال شكلًا ولا لونًا ولا لفظًا في قواميسهم، اعتادوا أن للقولِ فعلًا يتبعه على الفور، وأن طموحاتهم كالنقشِ على الصخور، لا يمكن لرياح الظروف أن تجعلها هشيمًا، فالشجرة التي أصلها ثابت، لا تأتي إلا بأطيب الثمار.
ترتدي السعودية ثوبًا زاهيًا يتلألأ بإنجازات قيادتها وشعبها، فإن كان الفضاء منالًا صعبًا، فإن السعودية لا تراه إلا شبرًا من المسافة، عانقته بروادها وأجرت التجارب البحثية هنالك، هي الأم الرؤوم التي تَسَعُ بأحضانها الأقطار، ويعم دفؤها الأمصار، ويحنو قلبها على شعبها، وإزاء القضايا الدولية، فتمد أيديها بالسخاء، وتنضح بالعطاء، هي الصدر الحنون الذي تنتمي إليه مشاعرنا، وتهفو إليه أرواحنا، وتتيتَّم من دونه، نجوب العالم بقاراته وترافقنا جوارحنا، لكن شيئًا منها بقي بعيدًا، في أرضٍ يبعد عنها الناظر ويقرب لها الخاطر، تبعد في جغرافية المكان، لكنها الأقرب في جغرافية المشاعر، هي التي بين خضم الترشيحات في أي مجال، تبرز ملفاتها مثل البدر في الدجى، إذا لمحت العين ضياءه، بات كل من حوله سرابًا، هي التي تحظى ببر أبنائها ومنجزاتهم بعد أن أحسنت رعاية الغرس، يتسابقون لازدهارها وتمثيلها، فأصبح التقدم بهم سريعًا في النمو، حتى سبقت عشرينيات رؤيتها ثلاثينها، هي قبلة العالم الدينية منذ القِدَم، وهي اليوم القبلة والوجهة السياحية والاقتصادية والسياسية والرياضية والفنية… السعودي لا يجعل أحلامه تبحر في عوالم الخيال دون واقع يكون لها الشراع والمجداف، السعودي يحلم ويحقق.