من النار إلى النور قراءة سيميو- أسلوبيّة في قصيدة “اشتعال قافية”
• فاتحة الروح (النص):
“اشتعال قافية”
في مُنخُلِ الأفكار غربلتُ الرؤى
الآن أصعد فوق أحلام السرى
وأفجِّر الشعر الرصين جداولا
أرمي بقافية ترتِّب ما جرى
قابلتُها، فتبرجتْ، وتزينتْ،
من زنبق الأمطار جاءت فكرتي
وتعدِّل الميل المؤطَّر فطرةً
ما عاد يشغلني الكثير من الألى
فغدوت مرفوعا لأعلى موقع
يا أيها الغادون في هذي الدنا
فبززت كل منافس متعملق
وغرست قافيتي على هام الدنا
ومحوت من عقل الحقيقة -قادرًا-
لأصوغ ترتيب المعاني من هنا
من شاعر يهب القوافي لونها ونسجتُ حرفًا من شمائله العلا
وأعيد بوحا قد تعاهده البلى
وأطوِّع الحرف العصيَّ، وإنْ سلا
ينبوع ضوءٍ في المنابع سلسلا
فسألتها: أو لم أكن؟ قالت: بلى
تهب الحياة محاسنا، بل موئلا
وتعيد لي شجنًا تطـامن أو علا
إن شطَّ قولا أو تسامح أو قلى
وهجرت “مِن”وسلوت”عن” وكذا “على”
هيهات مثلي أن يضل ويعجلا
وتركت غيري في الأباطح مهملا
خلَّفت غيري في الفلاة مجندلا
قولا تأكد، بل تثبَّت وانطلى
نغمًا تفجَّر في الأماكن منهلا
من شاعر حاز الثريا منزلا
• مصافحة:
في عالم الشعر العربي الحديث، تتداخل العناصر الرمزية مع الأساليب الأدبية لتُشكِّل نصوصا تتسم بالعمق والابتكار. قصيدة ” اشتعال قافية” للشاعر السوداني طارق يسن الطاهر تعد نموذجًا لهذه التوليفة الفريدة؛ حيث يجمع الشاعر بين رمزية النار والنور، للتعبير عن صراعاته الداخلية ورحلته نحو تحقيق وجوده، وبحثه الدائم عن النقاء والصفاء النفسي، وتطلعه للإبداع في تجربته الشعرية والأدبية بشكل عام؛ لذا يعتبر هذا النص من النصوص القليلة التي حاولت بطريقة مبتكرة التعبير عن ذلك الصراع الداخلي؛ حيث يتجلى هذا التفاعل بين النار طرف الصراع الأول الذي تنضوي عليه نفس الشاعر، والنور طرفه الثاني المعبر عن طاقة الإلهام والتحول. وقد ارتضينا لهذه القصيدة القراءة السيميو-أسلوبية وذلك اعتمادًا على عدة معطيات نصية تؤكد نجاعة كلٍّ من المنهج السيميائي الذي يسهم في تحليل الرموز، وفهم دلالاتها المتعددة، وكيفية توظيفها في النص، والمنهج الأسلوبي الذي يتيح للقارئ دراسة الأساليب التي اعتمدها الشاعر، وكيفية تأثيرها في تعزيز الرموز الموصلة للمشاعر والمعاني، ولاعتبارات أخرى أملتها علينا طبيعة النص التي تكشف عن قوة انفعال الشاعر بمؤثرات محيطه ومجتمعه؛ مما أثر في اختياراته على مستوى الموسيقى والألفاظ المكونة لصوره ولحقوله الدلالية المتعددة، ولأن السؤال هو مفتاح القراءات العلمية، وطريقها الذي ينأى عن الانطباع والأحكام المعيارية المستهلكة؛ تمهد الأسئلة الإشكالية مسلكاً واضحاً للفحص والتقصيّ المنهجي الدقيق، منها:
– ما أبعاد العلاقة القائمة بين الشكل والمضمون في هذه القصيدة؟
– ما الرموز والعلامات التي تظهر في القصيدة، وكيف يمكن تفسيرها في سياقَي التحول والتشتيت؟
– ما أبرز الوظائف التي يضطلع بها هذا النص؟
• وقوفاً بها صَحْبِي (العتبة الأولى):
إن المتأمل لعتبة هذا النص ” اشتعال قافية” يدرك منذ الوهلة الأولى أنه أمام نص ساخن، بدا صاحبه مدفوعًا بشغف إبداعي، محموماً بمعاني القوة والطاقة؛ مما يضع القارئ في حالة ترقب للرحلة الشعرية التي سيخوضها من خلال الأبيات، ولا يخفى على القارئ المتأمل أنّ أصل الاشتعال ذاتيٌّ، حين ترتفع درجة حرارة المادة، وتتفاعل تفاعلاً معينًا حتى تصل إلى درجة الاشتعال، وذلك يحدث من دون مصدر خارجي، فكيف إذا كان ذلك المشتعل حروفًا محشورة ما بين آخر حرفٍ ساكن في البيت إلى أول حرف متحرك يسبقه، أو اشتعال ذلك الصوت الذي يأتي بعد الحرف الساكن الأخير في البيت؟
تلك بلاغة تعبر عن مفاهيم معقدة من خلال تركيب مضغوط صيغَ في قالب المبتدأ والخبر؛ حيث حذف المبتدأ، وتقديره “هذا” وأبقى على الخبر، وهو “اشتعال” وأضاف إليه ” قافية”؛ ليصبح تقدير العنوان: هذا اشتعال قافية، تمثل القافية فيه معادلاً لنفس الشاعر، وكأنه أراد بطريقة أو بأخرى أن يوجه رسالة لمتلقيه مفادها أنَّ: “قافيتي هي أناي” كما بدا من خلال قوافيه أنه ذلك الإنسان الذي ارتضى لنفسه أن يكون شاعراً، وهذا ما يبرر أن يكون الاشتعال الوسيلة الوحيدة لخلود النص/ الشاعر، تلك الفكرة التوقيعية هي التي عقد عليها الشاعر عزمه وقصيدته معاً.
• سيمفونية الفضاء الشعري (تآلف الشكل والمضمون):
تتجلى قدرة الشاعر طارق يسن على خلق التوازن والتناغم العميق بين الشكل والمضمون، فهذه العلاقة المتكاملة هي التي أضفت على النص قوة وتأثيراً مضاعفَين؛ حيث لا يمكن الفصل بين أسلوبه الأدبي، والدلالات التي تضمنتها الكلمات والألفاظ؛ لذا كان لاختياراته دور مهم وفاعل، يمكن من خلاله استنطاق الكوامن والمضمرات في نفسه، استخدم مثلاً للقصيدة البحر الكامل بوزنه الموسيقي الذي يجمع بين السلاسة والقوة، محققاً التوازن الموسيقى والمرونة العالية المؤدية للتناغم، وعلى الرغم من أن هذا البحر يتطلب مهارة عالية إلا أن الشاعر نجح في استغلال طاقات هذا البحر عن طريق سماحه بزحاف الإضمار مثلاً في أكثر من موقع في القصيدة كما في البيت الطالع:
في منخل الأفكار غربلت الرؤى
متْفاعلن / متْفاعلن/ متفاعلن
إضمار/ إضمار/ ضرب صحيح
ونسجتُ حرفا من شمائلهِ العلا
متَفاعلن/ متْفاعلن/ متَفاعلن
صحيحة/ إضمار/صحيحة
أثر استخدام البحر الكامل على القصيدة بشكل عام؛ مما عزز غرضها، وأضفى توازنًا قويا وانسيابية عالية، تحاكي الانتقالات النفسية بين النار والنور، وقد جاءت القافية المطلقة بحرف الألف التي أعطت نهاية مفتوحة لتعزيز المعاني تجنب الشاعر بها الرتابة، ولزم في قافيته ما لا يلزم؛ حيث التزم اللام قبل الألف، كما عزز الشاعر الإيقاع المصاحب في قصيدته باستخدامه آلية التوازي عن طريق التناظر اللفظي كما في قوله على سبيل المثال: “أفجر الشعر الرصين جداولا” و” أطوع الحرف العصي”؛ مما يعكس الضدية بين القوة والضعف الليونة والشدة، وذلك يدعم فكرة التحول والتبدل، وقد استخدم التكرار بوصفه أداة بلاغية لتعزيز الأثر، وتأكيدًا على محورية الأفكار الخلاقة التي ينشدها وتوفيرا لإيقاع موسيقي جذاب، يتجلى ذلك في تكرار لفظة ” فكرتي” و ” الأفكار” وتكرار حروف الجر، واستخدامه للمحسنات اللفظية كالجناس الناقص بين: ” من، عن” ، والقوافي الداخلية في : فتبرجت وتزينت …، والطباق والتضاد في ” تطامن، علا” ؛ مما يعكس حالة جمالية مكتملة حققت أثراً موسيقياً واضحاً.
حاول الشاعر الجمع بين الجمل البسيطة والمركبة التي تعكس عملية العصف والتفكير، وقد استطاع من خلال آليتي التقديم والتأخير أن يكشف جانبًا من جوانب نفسه التي تعيش شعور البينية والصراع، ويبرز التقديم والتأخير منذ بيت المطلع:
في منخل الأفكار غربلت الرؤى
ونسجت حرفا من شمائله العلا
حيث قدم الجار والمجرور” في منخل” و” من شمائله” من باب التخصيص والاهتمام به.
ساعد على التماسك النصي في هذه القصيدة التزامه بالقاعدة النحوية التي لا نجده ينزاح عنها إلا بدعوى أو غرض، فأكثر من استخدامه المركبات الفعلية التي أعطت النص روحاً، وبثت فيه حركة ديناميكية فاعلة، وقد اهتم كثيراً بوسائل الربط والاتصال التي توحي بعمق اطلاعه على حالات الفصل والوصل، وهو باب من أبواب العربية الذي يدخله المتكلم ولا يخرج منه أبداً، فأكثر من استخدامها، وأجاد فيها ومن ذلك قوله:
لأصوغ ترتيب المعاني من هنا
نغمًا تفجَّر في الأماكن منهـــلا
احتوت القصيدة على كثير من الرموز الموحية، والأفكار الدالة على عمق الصراع النفسي الداخلي لدى الشاعر، من أهمها؛ رمزية النور والنار التي تتكامل مع الأساليب البلاغية؛ مما يعزز من فهم التحولات النفسية لدى الشاعر، ورموز أخرى طبيعية تتمثل في قوله: “من زنبق الأمطار جاءت فكرتي” ترمز للنقاء والإبداع، فالشاعر هنا يستخدم لغة غنية بالصور والتشبيهات لتعزيز هذه الرموز؛ مما يصنع تماسكاً نصياً جلياً بين شكل القصيدة ومضمونها.
• مرآة التحول والتشتيت (مطاردة الرموز والعلامات):
في عوالم الشعر المركبة، تعتبر الرموز والعلامات بمثابة أدوات لفهم التجربة الإنسانية بأبعادها المختلفة، وفي قصيدة اشتعال قافية تتجلى هذه الرموز بوصفها مرآة تعكس التحولات الداخلية، وتبرز التشتت الذي يعيشه الشاعر، فالرابط بينهما يكمن في الطريقة التي يستخدم بها الشاعر هذه المفاهيم لتمثيل التغيرات النفسية والفكرية التي تطرأ عليه، فالتحول يمثل جانبا من جوانب التغيير العميق والجوهري في شخصيته، وفي المقابل يعبر التشتيت عن عملية تحليل الأفكار والمشاعر وفصلها وغربلتها لإعادة تشكيلها.
عبر الشاعر عن سياقات التحول والتشتيت عن طريق عدة علامات من أبرزها:
– النار (اشتعال):
ترمز النار إلى الشغف والإلهام في الأساطير اليونانية، والتطهير والتنقية في الثقافات الإغريقية، وتدل على الأمور المسكوت عنها والمكبوتة في داخل الشاعر، والتي تضعه في مواجهة ضارية مع محيطه، وتجعله في حالة صراع دائم وجهاد لإثبات الذات، كما جاءت صورة الآخر في شعره؛ لتعبر عن تلك الأزمة النفسية التي يعيش تحت وطأتها، يتجلى ذلك في قوله:
فبززت كل منافسٍ متعملقٍ
وتركتُ غيري في الأباطح مهملا
وقوله:
غرست قافيتي على هام الدنا
خلَّفت غيري في الفلاة مجندلا
– ثنائية التفجير/ التطويع:
تبرز المفارقة في قوله:
وأفجّر الشعر الرصين جداولا
وأطوّع الحرف العصيَّ، وإن سلا
يستخدم الشاعر أسلوبا من أساليب الجذب الذي يكمن في المفارقة اللغوية التي تجمع بين لفظتي “أفجّر” و”أطوّع” التي جاءت على وزن “أُفَعّل”، الوزن الذي يعبر عن المبالغة والتصعيد الواضح؛ مما يدعم إرادة التحول عند الشاعر، ويثير انفعالاً يبدو أنه عميق إلى حد إنتاج قصيدة يسجل من خلالها موقفا حازما تجاه الضغوط التي يعانيها، ومع ذلك يختار الشاعر المقاومة كما في قوله:
ومحوت من عقل الحقيقة -قادرًا-
قولا تأكد، بل تثبَّت وانطلى
وأصوغ ترتيب المعاني من هنا
نغما تفجَّر في الأماكن منهلا
– ديناميكية التحول التدريجي (حسن التقسيم):
يعد حسن التقسيم علامة من العلامات البلاغية الفاعلة ذات العمق والتأثير الجمالي الواضح، وذلك بوصفه معبراً آمناً للتحول التدريجي الذي يسهم في خلق نسيج شعري معقد، يعكس التحولات النفسية والفكرية للشاعر، الأمر الذي يعمِّق تجربة القارئ ويضيف طابعاً جماليا للنص، ثم أن استخدام كلمات متتابعة متشابهة في النطق إلى حدٍ ما، مختلفة في المعنى تدعم التحولات المتتالية التي يمر بها النص؛ حيث تتغير المعاني ببطء، وبشكل تدريجي؛ حتى تصل إلى مرحلة النضج المعتبرة لإعادة إنتاج الهوية الذاتية، يعبر عن ذلك قول الشاعر:
ما عاد يشغلني الكثير من الألى
إن شطَّ قولا أو تسامح أو قلى
فغدوت مرفوعا لأعلى موقع
وهجرت “مِن ” وسلوت “عن” وكذا “على”
كما تعبر الأبيات السابقة عن تعدد الأوجه للمعاني والأفكار، وكيف تقلبت الأفكار في نفس الشاعر؛ رغبة منه في الوصول إلى الفهم العميق المؤدي إلى التحول والتغيير.
وفي قوله:
قابلتها، فتبرجت، وتزينت
فسألتها: أو لم أكن؟ قالت: بلى
يرمز استخدامه للتقسيم في البيت السابق إلى المعنى المباشر الذي يعبر عن التدرج من لقاء بسيط إلى لحظة تبرج وتزين واكتمال المعاني والأفكار في ذهنه، وهي عملية تحول متراكمة تتبع الأحداث بصورة متلاحقة ومنتظمة.
– انعكاسات الفوضى (التشتيت والغربلة):
تجلت الفوضى بوصفها عنصرا مركزيا من خلال الرموز والعلامات المعبرة عن التشتيت والغربلة، تعكس هذه العناصر عملية تحليل الأفكار وإعادة ترتيبها في ظل فوضى الشاعر النفسية والفكرية، تمثل ذلك في استخدامه الصريح لعدة تراكيب منها؛ “منخل الأفكار” و “غربلت الرؤى” و ” أرمي بقافية” و ” خلفت غيري” كل هذه المركبات تعبر عن عملية استخراج المعاني النقية من بحر الأفكار المشتتة، وتكشف جانبا من جوانب إحساس الشاعر بالاغتراب النفسي العميق، ومع ذلك استطاع الشاعر أن يخبئ ذلك الشعور عن طريق تسليطه الضوء على روحه المحاربة التي يقول فيها: ” بززت كل منافس متعملقٍ” البيت الذي يكشف بجلاء رؤيته للآخر الذي لا يرى فيه سوى ذلك المنافس الذي يُظهر نفسه بأكثر مما هو عليه في الأصل.
وفي ظل سياق التشتيت والغربلة يتجلى قول الشاعر:
أرمي بقافية ترتِّب ما جرى
ينبوعَ ضوء في المنابع سلسلا
يعكس البيت السابق عملية تنظيم الأفكار والتجارب المشوشة باستخدام القافية باعتبارها أداة من أدوات الغربلة؛ مما يؤدي إلى استخراج أفكار نقية وواضحة تتدفق بسلاسة النور، كما يعبر عن عملية الانتقاء الواعية في ظل التشتيت، وهي دعوة لتنظيم المتناثر، وهي النتيجة التي يرجوها الشاعر من عملية الغربلة، التي عبر عنها بقوله: ” ينبوع ضوء”، هكذا تتحول النار إلى نور في رحلة معقدة لشاعر يعاني قهرا وضغطاً اجتماعيا واضحاً.
• تحت مجهر جاكبسون (وظائف النص):
تعد الوظائف التي يؤديها النص بمثابة العماد الذي ترتكز عليه قوى النص الخفية. رومان جاكبسون، الناقد اللغوي البارز صنّف هذه الوظائف إلى ستة أبعاد تعكس كيفية تفاعل النص مع قارئه وتأثيره عليه، ومن خلال قراءة قصيدة “اشتعال قافية” للشاعر طارق يسن الطاهر، وفي ضوء نظرية جاكبسون، حقق النص خمس وظائف أتاحت للمتلقي فهم هذه التجربة بشكل أعمق لأسلوب الشاعر ورسالته الأدبية، من هذه الوظائف:
– الوظيفة التعبيرية (الانفعالية):
تعبر هذه الوظيفة عن مشاعر وأفكار الشاعر الذاتية، باستخدام الشاعر للقافية والحروف للتعبير عن تحولاته النفسية ومعاناته الداخلية، فقد بلغ درجة من الانفعال أوصلته للتحدي والتصعيد، كما في قوله: “بززت كل منافس متعملق” التي تعبر عن الثقة والتحدي، وقوله: “هيهات مثلي أن يضل ويعجلا” و” فغدوت مرفوعا لأعلى موقع”.
– الوظيفة الشعرية (الجمالية):
تركز هذه الوظيفة على شكل الرسالة نفسها، بما في ذلك القوافي والأساليب البلاغية. كاستخدامه لآلية التقسيم الحسن واستخدام الصور الشعرية المعبرة عن أزمته واغترابه وحنينه إلى الرجوع إلى الماضي، كقوله: “أعيد بوحا قد تعاهده البلى”، وقوله: “وتعيد لي شجنًا تطامن أو علا”.
– الوظيفة الإحالية (المرجعية):
تعبر هذه الوظيفة عن السياق العام للرسالة أو النص، والإشارة إلى الحالة النفسية والاجتماعية للشاعر، واستخدام الرموز مثل “المنخل” و”أفجر الشعر” و”هجرت وسلوت” لتعكس حالة التشتيت والتحول.
– الوظيفة الإفهامية (المعرفية):
تركز هذه الوظيفة على المحتوى والمعلومات المقدمة في النص، كمحاولة الشاعر شرح أفكاره ومشاعره بوضوح، مثل قوله: “أرمي بقافية ترتب ما جرى” لتعبر عن الحاجة لتنظيم الفوضى الداخلية، وقوله: “وأصوغ ترتيب المعاني” و” وتعدل الميل المؤطر فطرة”.
– الوظيفة الالتزامية (الندائية):
تتخذ هذه الوظيفة من نداء القارئ أو المستمع، دوراً فاعلا في الاتصال، كمخاطبة القارئ بشكل مباشر في بعض الأبيات، مما يخلق تواصلاً مباشراً ويجعل النص أكثر حيوية وتأثيراً، وفي ذلك يقول الشاعر: “يا أيها الغادون في هذي الدنا”.
بتحقيقه لهذه الوظائف، يمكننا أن نفهم كيف يعبر الشاعر طارق يسن الطاهر عن تحولاته النفسية والفكرية في “اشتعال قافية”، وكيف يستغل البنية الشعرية والبلاغية لخلق تأثير عميق ومتعدد الأبعاد.
• خاتمة المزيد:
تتسم لغة الشاعر بالتكثيف والرمزية التي تجمع بين الألفاظ القوية الجزلة، وبين الصور البيانية العاكسة لعمق التجربة، ولتفاصيل الحالة التي كابدها الشاعر، وعلى الرغم من تمسك الشاعر بالقالب الكلاسيكي للقصيدة العمودية، إلا أن قصيدته لم تخلُ من مظاهر التجديد التي تتمثل في استخدامه للرمزية العالية التي تتعدى المعنى المباشر وتتجاوزه لما هو أبعد، وتتجلى مظاهر التجديد في تنويع الشاعر في استخداماته البلاغية، وموازنته بين الشكل والمضمون لإظهار الصورة الدقيقة لنفسية الشاعر بملامحها المعقدة.
استطاع النص تجاوز كونه مجرد تعبير عن المشاعر ليصبح شاهد عيان، ومرآة صادقة تعكس أدق التحولات النفسية والصراعات الداخلية، وبفضل استخدام آليات المنهج الأسلوبي الفاحص لاختيارات المؤلف، والسيميائي المتتبع لسيرورة الرموز والدلالات وصيرورتها، يمكننا القول إن:
– العلاقة التكاملية التي انصهرت فيها التقنية الفنية مع المعنى، التي لا يمكن فصلها بسهولة لتداخلهما الذي خلق تجربة شعرية متكاملة، عمل فيهما الشكل والمضمون جنباً إلى جنب لإيصال الرسالة الشعرية إلى المتلقي بطريقة موحدة ومترابطة، الأمر الذي أعطى القصيدة الحكم بقوة الصياغة لمعنى معقد كان في احتياج إلى تفكيك وغربلة.
– استخدم الشاعر الرموز والعلامات اللغوية البلاغية بمهارة، لتصوير حالات التحول والتشتيت الذهني والروحي التي مر بها؛ فاستخدم النار التي ترمز إلى الشغف والصراعات الداخلية، والتي تعكس الجوانب المعقدة في تجربته، وبالمقابل استخدم النور الذي يمثل الإلهام والنقاء الذي كان نتيجة للفحص والغربلة والتمحيص، والبحث المستمر.
– تحققت في هذه القصيدة خمس وظائف من أصل ست أقرها جاكبسون؛ مما يحقق أبعادا متعددة للنص، ويعزز من تأثيره لدى القارئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوري العبد الله
كاتبة وباحثة سعودية في مجال الدراسات الأدبية والنقدية.