بقلم صالحة حكمي
كُنَّا في منطقتنا نتعجب من ابتسامة هذه العجوز، ورضاها بالقسمة، وضحكتها المجلجلة.. كانت على مشارف عقدها التاسع، وقد أنفقت ثمانين عامًا غير مُغضَبة، حتى كأن تجاعيد وجهها أبت الظهور، أو نسيت أن لهذا الوجه كبوة.. إذا رأيتَها رأيتَ شبابًا وثَّابًا، وجناحًا من الأمل يظلل كل الشدائد، سألتُها يومًا وأنا أعد لها قهوة الصباح: “ما السرُّ يا خالتي”، فقالت: الرضا!
أعلمتني بحكمتها أن أكثر الناس وعيًا هو مَن يُدرِك تقلبات الزمان، ويعرف رحلة المناصب، وتغيُّر المسؤوليات، وتبدُّل الظروف والأحوال.
تطرَّق حديثنا إلى الدكتور إبراهيم النعمي، فحمدنا رضاه، وأثنينا على هدوئه وثقته بالله، وإخلاصه لما قدَّم، وانتظاره مستعدًا لكل ما يأتي.
تولَّى إدارة تعليم جازان، ففجَّر الطاقات، وأخرج الأنشطة، وصنع ثورة ثقافية بحق، قوامها العلم، وأساسها الحث على الأخلاق الحميدة، والْمُثُل العليا، والتمسك بتعاليم الدين، والانفتاح على التحديث، وإعطاء المساحة للشباب اليافع، ليقول ويتكلم، متخذًا السمع وسيلة استمتاع، والنقد طريق بناء.
زرتُه في مكتبه يومًا، فما وجدتُ إلا أبًا، وجلستُ معه، فما رأيت إلا تباسطًا في الحديث وترفُّقًا بالضيف وإكرامًا.. ينهل من علمٍ غزير فكأنه يقرأ من كتاب أمامه، ويضحك فكأنما حباه الله بقلب لا يفهم الكراهية، ولسانًا لا يعرف الإساءة..
حدثني عن أن العلم تراكم خبرات، والعمل تكريس جهود، والسعي نحو الخط الذي بدايته إنفاذ صالح الأوامر، واستشعار معية الله، نهايته جنة الرحمن وطفولة القلب..!
وها هو يترجَّل عن منصبه، فيهنِّئ من يخلُفُه، ويذهب إلى استراحة محارب، وإلى خدمة أمته في موضع جديد.
يعرف أن المناصب مسؤوليات، فيتركها هي تبحث عنه، وإن تسلَّمها، فإنما يتسلَّم زجاجًا مهشَّمًا، فلا يمدّ يده إلا بحذر، ويتصرف فيه بأمانة، ويحيطه بالنزاهة من كل جانب، وإذا أثبت حسن الصنيع، وأدى المهمة على وجهها الأكمل، ترك الراية لمن يخلفه راضيًا بما بدأه كما هو راض عمن سيكمل بعده. فالبناء كما التعليم، يحتاج إلى تضافر الأيدي، واستمرار الجهود!
علّمني الكثير، أكثر من العجوز الراضية في منطقتنا، ومن أقوال العرب، ومن أشعار درستها وعلَّمتها لغيري.. عرَّفني أن الشكر درجات، وأن الشاكر الممتنّ خير من البخيل الضانّ بما ليس عنده، وأن أكبر صدقة يبذلها مِعطاء هي الاعتراف بالفضل، وإبداء الامتنان.. زيارة إلى صفحته على “تويتر” تكشف لكم عن أصالة هذا المبدأ، وصدق التطبيق؛ يشكر وزير التعليم على ثقته بتكليفه السنوات المخضبة، ويشكره ثانية على اختياره خلفًا على قدر المسؤولية، ويشكر إخوانه الذين وصفهم بالنفوس الصافية التي تطوِّق بكريم الوصل، ويشكر زملاء جازان، ويعاهدهم ألا يعرف نسيانهم طريقًا إلى قلبه، فيتجلى الشكر عرفانًا، وتتخذ الصورة إطارها المذهَّب، ويعرف الفضل أهله!
وقد كان تعليم جازان واسطة عقد بين مناصب عدة شرفت به، وشرفنا أنه بها؛ متحدثًا رسميًّا باسم جامعة جازان، ومشرفا عامًّا على العلاقات والإعلام الجامعي، ومشرفًا على إدارة الندوات، ومشرفًا على كرسي صحيفة الجزيرة، وأمين شباب جازان كلها، ومساعد وكيل الجامعة.. وكلما تسنَّم منصبًا منها، أنزل رحاله، وطلب من الله العون، ثم مضى يتخير الخبرات، ويعزز النشاطات، ويحرّك المياه، ميممًا شطر بلاده وتعليمه.. الأمانة في كل اتجاه أمامه، والصبر دابته، والأمل مبتغاه، وكلما قطع من الطريق بعضه، مدَّ يديه ليساعد من سقط على النهوض، ويربِّت على من لحق به.
إنه مثال سعودي حقيقي، لعالِم حقيقي، ورجل مسؤوليات لا مناصب..!
بقلم صالحة حكمي